وهذا مالكا وهذا مملوكا ، كما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شئنا ، كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) في القوة والضعف ، والعلم ، والجهل ، والغنى ، والفقر لأن لو سويناهم في كل هذه الأحوال ، لم يخدم أحد أحدا ، ولم يصر أحد منهم مسخّرا لغيره. وحينئذ يخرب العالم ويفسد نظام الدنيا.
وقوله : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي ليستخدم بعضهم بعضا ، فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم (١). وقد مضى الكلام في سخريا في المؤمنين (٢). وقرأ بالكسر هنا عمرو بن ميمون ، وابن محيصن ، وأبو رجاء وابن أبي ليلى ، والوليد بن مسلم (٣) ، وخلائق بمعنى المشهورة وهو الاستخدام. ويبعد قول بعضهم : إنه استهزاء الغنيّ بالفقير (٤). ثم قال : «و (رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني الجن ة «خير للمؤمنين» مما يجمع الكفار من الأموال.
قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)(٣٥)
قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...) اعلم أنه تعالى أجاب ههنا بوجه ثالث عن شبهتهم بتفضيل الغني على الفقير ، وهو أنه تعالى بين أن منافع الدنيا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله تعالى وبين حقارتها بقوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) والمعنى لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للنعم فأحدها : أن يكون سقفهم من فضّة. وثانيها : معارج عليها يظهرون أي يعلون ويرتقون ، يقال : ظهرت علسى السّطح إذا علوته (٥).
__________________
(١) انظر القرطبي ١٦ / ٨٣.
(٢) عند قوله : «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ» الآية ١١٠ من المؤمنين وكل الناس ضموا سخريّا عدا ابن محيصن ومجاهد كما قال القرطبي ١٦ / ٨٣ وأخبر المؤلف أعلى أن ممن كسرها أبو رجاء وابن أبي ليلى والوليد بن مسلم وأبو رجاء ، وعمرو بن ميمون وابن عامر ، وهذا نقلا عن البحر المحيط ٨ / ١٣ والدر المصون ٤ / ٧٨٠ وقراءة الكسر قراءة شاذة غير متواترة.
(٣) أبو العباس ، وقيل : أبو بشر الدمشقي عالم أهل الشام روى عن نافع بن أبي نعيم وغيره ، وروى عنه إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره مات سنة ١٩ ه. انظر غاية النهاية ٢ / ٣٦٠.
(٤) نقله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤١٠ وكذلك القرطبي ١٦ / ٨٣.
(٥) القرطبي السابق وانظر غريب القرآن ٣٩٧.