لأن كثرة المواظبة على الشيء توجب حصول الملكة اللّازمة لينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى ، فإذا واظب على تلك الحال انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى.
روي أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يجتهد في دعاء قومه ، وهم لا يزيدون إلا تصميما على الكفر وعنادا في الغي فقال الله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) بمعنى أنهم في النفرة عنك وعن دينك بحيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصّمّ ، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمي (١).
قوله تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ)(٤٤)
قوله : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) قد تقدم الكلام عليه قريبا ، والمعنى فإمّا نذهبنّ بك بأن نميتك قبل أن تعذبهم (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) بالقتل بعدك ، (أَوْ نُرِيَنَّكَ) في حياتك (الَّذِي وَعَدْناهُمْ) من العذاب ، (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) قادرون متى شئنا عذبناهم وأراد به مشركي مكة ، انتقم منهم يوم بدر هذا قول أكثر المفسرين. وقال الحسن وقتادة : عنى به أهل الإسلام (٢) من أمة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقد كان بعد النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ نقمة شديدة في أمته فأكرم الله تعالى نبيه وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي تقرّ عينه ، وأبقى النقمة بعده وروي أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أري ما يصيب أمّته بعده فما رؤي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله تعالى (٣). وقرىء : «نرينك» بالنون الخفيفة (٤).
قوله تعالى : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) العامة على أوحي مبنيا للمفعول مفتوح الياء وبعض قراء الشام سكنها تخفيفا (٥) ، والضحاك : مبنيا للفاعل (٦) وهو الله تعالى.
فصل
لما بين له ما يوجب التسلية أمره أن يتمسك بما أمره الله تعالى به فقال فاستمسك بالذي أوحي إليك بأن تعتقد أنه حق ، وبأن تعمل بموجبه ، فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضالّ في الدين. ولما بين تأثير التمسك بهذا الدين في منافع الآخرة بين
__________________
(١) انظر الرازي ٢٧ / ٢١٥.
(٢) في ب السلام.
(٣) انظر تفسير القرطبي ١٦ / ٩٢.
(٤) وهي قراءة رويس وهي من العشرة المتواترة انظر الإتحاف ٣٨٦ والنشر ٢ / ٣٦٩.
(٥) ذكرها البحر المحيط ٨ / ١٨ ، والدر المصون ٤ / ٧٨٨.
(٦) المرجعين السابقين والكشاف ٣ / ٤٩٠.