فصل
اختلفوا في أن قولهم : يا مالك ليقضي علينا ربك على أي الوجوه طلبوه؟ فقال بعضهم : على التمني. وقال آخرون : على وجه الاستغاثة ، وإلا (١) فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم من ذلك العقاب. وقيل : لا يبعد أن يقال : إنهم لشدة ما هم فيه نسوا تلك المسألة تذكره (٢) على وجه الطلب. ثم إنه تعالى بين أن مالكا يقول لهم : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) وليس في القرآن متى أجابهم ، هل أجابهم في الحال أو بعد ذلك بمدة؟ ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ما هو كالعلة لذلك الجواب فقال : (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) والمراد نفرتهم عن محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعن القرآن ، وشدّة بغضهم لقبول الدين الحق.
فإن قيل : كيف قال : (وَنادَوْا يا مالِكُ) بعد ما وصفهم بالإبلاس؟
فالجواب : أنها أزمنة متطاولة ، وأحقاب ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكنون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتا لشدة ما بهم. روي أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون : ادعوا مالكا فيدعون يا مالك ليقضي علينا ربّك.
ولما ذكر الله تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ، ذكر بعده كيفية مكرهم ، وفساد باطنهم في الدنيا فقال : (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) أي أحكموا (٣) أمرا في المكر برسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعني مشركي مكة (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) محكمون أمرا في مجازاتهم أي مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) [الطور : ٤٢]. قال مقاتل : نزلت في تدبيرهم في المكر في دار الندوة وقد تقدم في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ...) [الأنفال : ٣٠] الآية (٤). قوله : (أَمْ أَبْرَمُوا) أم منقطعة. والإبرام الإتقان وأصله في الفتل يقال : أبرم الحيل ، أي أتقن فتله وهو الفتل الثاني ، والأول يقال له : سحيل (٥) قال زهير :
٤٤١٩ ـ لعمري لنعم السّيّدان وجدتّما |
|
على كلّ حال من سحيل ومبرم (٦) |
قوله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) السر ما حدث الرجل به
__________________
(١) كذا في الرازي وفي ب فإنهم.
(٢) في ب والرازي : فذكروه.
(٣) قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٤٤٠ وأبو عبيدة في مجازه ٢ / ٢٠٦.
(٤) انظر في هذا الماضي تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ٢٢٧ و ٢٢٨.
(٥) انظر مادتي برم وسحل من اللسان ٢٦٩ و ١٩٥٧ وانظر أيضا معاني القرآن للزجاج ٤ / ٤٢٠.
(٦) من الطويل من معلقته المشهورة وهو يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف والمعنى فيه على الاستعارة. والشاهد : من سحيل ومبرم فإن الشاعر يقصد معنى آخر واستعار هذين اللفظين المحسوسين وانظر السبع الطوال ٢٦٠ والهمع ٢ / ٤٢ والخزانة ٣ / ٣ و ٢٠ و ٩ / ٣٨٧ وشرح المعلقات السبع للزوزني والسراج المنير ٣ / ٧٥ والقرطبي ١٦ / ١١٨ والدر المصون ٤ / ٨٠٢ والديوان ١٤.