الرابع : قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) والمنزل محلّ تصرف الغير ، وما كان كذلك فهو محدث. قال ابن الخطيب : وقد ذكرنا أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروب المتعاقبة ، والأصواب المتوالية محدث والعلم بذلك ضروري بديهيّ لا نزاع فيه ، إنما القديم شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات (١).
فصل
يجوز أن يكون المراد بالكتاب ههنا الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء ، كما قال : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) [الحديد : ٢٥] ويجوز أن يكون المراد به اللوح المحفوظ. قال الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩] وقال : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ويجوز أن يكون المراد به القرآن ، وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل في ليلة مباركة وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن ، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل (له (٢)) إليه حاجة : «أستشفع بك إليك ، وأقسم بحقّك عليك». وجاء في الحديث : «أعوذ برضاك من سخطك ، وبعفوك من عقوبتك وبك منك ، لا أحصي ثناء عليك» (٣).
قوله : «المبين» هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فوصفه بكونه مبينا وإذا (٤) كانت حقيقة الإبانة لله تعالى ، لأن الإبانة حصلت به ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [النمل : ٧٦] وقوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] وقوله : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٥] فوصفه بالتكلم ، إذ كان غاية في الإبانة ، فكأنه ذو لسان ينطق مبالغة.
فصل (٥)
قال قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين : المراد بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هي ليلة القدر. وقال عكرمة وطائفة : إنها ليلة البراءة وهي ليلة النصف من شعبان. واحتج الأولون بوجوه:
الأول : قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] وقوله ههنا : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) فوجب أن تكون هي تلك الليلة المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض.
__________________
(١) انظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٧ / ٢٣٦ و ٢٣٧.
(٢) زيادة من أعن ب والرازي.
(٣) جزء من حديث طويل أخرجه البيهقي وضعفه عن عائشة انظر الدر المنثور ٧ / ٤٠٣ و ٤٠٤.
(٤) كذا في النسختين وفي الرازي وإن.
(٥) هذا الفصل كله سقط من ب.