وفيه نظر ؛ إذ لقائل أن يقول لا نسلم أن «ما» في قوله (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) مصدرية حتى يلزم ما ذكره ، بل يجوز أن يكون بمعنى الذي وهو عبارة عن نفس ذلك الشيء المخفى فيكون قد قابل الاسم غير المصدر بمثله ، والمراد بقوله : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي تضمر القلوب (١).
واعلم أن الأفعال قسمان : أفعال الجوارح ، وأفعال القلوب ، وأما أفعال الجوارح فأخفاها خائنة الأعين والله عالم بها فكيف الحال في سائر الأعمال ، وأما أفعال القلوب فهي معلومة لله تعالى لقوله (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) فدل هذا على كونه عالما بجميع أفعالهم.
قوله (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) وهذا أيضا يوجب عظم الخوف لأن الحاكم إذا كان عالما بجميع الأحوال وثبت أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى.
قوله : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) ، قرأ نافع وهشام تدعون بالخطاب للمشركين والباقون بالغيبة ، إخبارا عنهم بذلك (٢).
واعلم أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام فبين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة ، فقال : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) ثم قال : (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ، ولا يسمع ثناءهم على الله ويبصر خضوعهم وسجودهم ، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله.
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢٢)
ولما بالغ في تخويفهم بأحوال أهل الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) والمعنى أن العاقل من اعتبر بغيره ، فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار ، وأقوى آثارا في الأرض أي حصونهم وقصورهم وعساكرهم ، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله عاجلا حتى إن هؤلاء الجاحدين (٣) من الكفار شاهدوا تلك الآثار
__________________
(١) هذا رد السمين على الزمخشري نقله المؤلف عنه وهو رأي وجيه حيث لا داعي لهذا الإلزام الذي فرضه الزمخشري انظر الدر ٤ / ٦٨٦.
(٢) في السبعة ٥٦٧ وإبراز المعاني ٦٧١.
(٣) في ب كذلك وفي الرازي الحاضرين.