والثالث : ـ وهو الصحيح ـ أنها نافية بمعنى مكّناكم في الذي ما مكّناهم فيه من القوة والبسطة وسعة الأرزاق (١). ويدل له قوله في مواضع : (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [الروم : ٩] وأمثاله. وإنما عدل عن لفظ «ما» النافية إلى «إن» كراهية لاجتماع متماثلين لفظا. قال الزمخشري : وقد أغثّ (٢) أبو الطيب في قوله :
٤٤٥٩ ـ لعمرك ما ما بان منك لضارب |
|
......... (٣) |
وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال : «ما إن بان».
فصل
معنى الآية مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول العمر ، وكثرة المال ثم إنهم مع زيادة القوّة ما نجوا من عذاب الله تعالى فكيف يكون حالكم؟ ثم قال : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) أي فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمعا ، فما استعملوه في سماع الدلائل وأعطيناهم أبصارا فما استعملوها في دلائل ملكوت السماوات والأرض ، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جرم ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله تعالى (٤).
قوله : (فَما أَغْنى) يجوز أن يكون «ما» نفيا وهو الظاهر. أو استفاهاما للتقرير (٥).
واستبعده أبو حيان لأجل قوله : (مِنْ شَيْءٍ) قال : إذ يصير التقدير أي شيء أغنى عنهم من
__________________
(١) وهو اختيار الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٢٥ ، وأبي حيان في البحر ٨ / ٦٥ وسبق إليه الفراء في المعاني ٣ / ٥٩ والزجاج أيضا في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٤٦ ، واختار المبرد ـ فيما نقله عنه النحاس في الإعراب ـ أن تكون «إن» بمعنى النفي أيضا انظر النحاس في إعرابه ٤ / ١٧٠.
(٢) أغثّ فلان في حديثه إذا جاء بكلام غث ولا معنى له وهو فعل لازم ، انظر اللسان غثث ٣٢١٣.
(٣) هذا صدر بيت من الطويل للمتنبي من قصيدة يمدح بها طاهر بن الحسين العلوي وعجزه :
........... |
|
بأقتل ممّا بان منك لعائب |
ورواية الديوان : يرى أن ما ما ... البيت.
ولذلك علق ابن المنير على الزمخشري قائلا بيت المتنبي ليس كما أنشده : لعمرك وإنما هو : يرى أن الخ ... ولا يستقيم إلا كذلك لأن قبله ، هو ابن رسول الله وابن صفيه وشبههما شبهت بعد التجارب. ومعنى البيت أن لسانه لا يتقاعد عن سنانه هذا للعائب ، وهذا للمضارب وما الأولى نافية والثانية موصولة واسم أن محذوف تقديره يرى أنه ما الذي ظهر منك لضارب بأقتل من الذي بان منك لعائب أي لا يرى القتل أشد من العيب بل العيب عنده أشد من القتل. والشاهد تكرير لفظ «ما» حيث الثقل المشبع كما أوضح أعلى. وانظر الديوان ٢ / ٢٨٥ والكشاف ٣ / ٥٢٥ وشرح شواهده ٤ / ٣٤٣ والإنصاف على الكشاف ٣ / ٥٢٥.
(٤) الرازي ٢٨ / ٢٩.
(٥) ذكر هذين الوجهين ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٧٢ وأبو حيان في البحر ٨ / ٦٤.