قوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) قال ابن الخطيب : إن قلنا : (إن (١)) المراد من قوله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) أي لا تكثروا الكلام فقوله : (وَلا تَجْهَرُوا) يكون مجازا عن الإتيان بالكلام عند النبي ـ صلىاللهعليهوسلم (٢) ـ بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل ، وإن قلنا : المراد بالرفع الخطاب فقوله : (لا تَجْهَرُوا) أي لا تخاطبوه كما تخاطبو (ن (٣)) غيره.
واعلم أن قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) لما كان من جنس لا تجهروا لم يستأنف النداء ، ولما كان مخالفا للتقدم لكون أحدهما فعلا والآخر قولا استأنف كقول لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) ، وقوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) لكن الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح ، فقوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) من غير استئناف النداء لكون الكل من عمل الجوارح.
فإن قيل : ما الفائدة من قوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) مع أن الجهر مستفاد من قوله: (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ)؟.
فالجواب : أن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي ـ صلىاللهعليهوسلم (٤) ـ أو صوته ، والنهي عن الجهر منع من المساواة ، أي لا تجهروا له بالقول كما تجّهرو (ن (٥)) لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا (٦).
قوله : (أَنْ تَحْبَطَ) مفعول من أجله. والمسألة من التنازع لأن كلّا من قوله : (لا تَرْفَعُوا) و (لا تَجْهَرُوا لَهُ) يطلبه من حيث المعنى فيكون معمولا للثاني عند البصريين في اختيارهم ، وللأول عند الكوفيين. والأول أصح للحذف من الأول أي لأن تحبط (٧). وقال أبو البقاء : إنها لام الصّيرورة (٨) و (أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) حال.
فصل
معنى الكلام إنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتم فذلك يؤدي إلى الاستحقار وهو يفضي إلى الارتداد والارتداد محبط. وقوله : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) إشارة إلى أن الردّة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنبا لم يرتكبه في عمره تراه نادما غاية الندامة خائفا غاية(٩) الخوف ، فإذا ارتكبه مرارا قلّ خوفه وندامته ويصير عادة
__________________
(١) زيادة من أكالرازي تماما.
(٢) في ب عليه الصلاة والسلام.
(٣) النون ساقطة من النّسختين ولا بدّ منها.
(٤) في ب عليه الصلاة والسلام.
(٥) في ب تجهروا.
(٦) قال بهذا الإمام في تفسيره الكبير ٢٨ / ١١٣.
(٧) قاله أبو حيّان في البحر ٨ / ١٠٦.
(٨) وهي لام العاقبة قال : أو لأن تحبط على أن تكون اللام لا العاقبة. انظر التبيان ١١٧٠.
(٩) الرازي المرجع السابق. وفيه هكذا وفي ب عليه.