فأذّن فقال عتّاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟ وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيّره. وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به ربّ السماوات فأتى جبريل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأخبره بما قالوا : فدعاهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله ـ عزوجل ـ هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال ، والإزراء بالفقراء (١).
فإن قيل : هذه الآية تدل على عدم اعتبار النسب وليس كذلك فإن للنسب اعتبارا عرفا وشرعا حق لا يجوز تزويج الشريفة بالنّبطيّ!.
فالجواب : إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبرا ، وذلك في الجنس والشرع والعرف أما الجنس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس ، ولجناح الذباب دويّ ولا يسمع عندما يكون رعد قويّ. وأما العرف فلأن من جاءه غلام ملك أقبل عليه وأكرمه فإذا جاءه مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا يلتفت إليه. وإذا علم هذا ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلهيّ لا يبقى هناك اعتبار لا لنسب ولا لسبب ، ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسبا ، والمؤمن وإن كان من أدونهم نسبا لا يقاس أحدهما بالآخر وكذلك ما هو من الدين مع غيره ، ولهذا تصلح المناصب الدينية كالقضاء والشهادة لكل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما ، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشيّ النّسب وقارونيّ النّشب ولكن إذا اجتمع في اثنين الدين المتين وأحدهما نسيب يرجح بالنسب عند الناس لا عند الله ، لقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] وشرف النسب ليس مكتسبا ولا يحصل بسعي (٢).
فصل
الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر ، ولم يذكر المال ، لأن الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة ، لكن النسب أعلاها ، لأن المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار المفتخر به عليه والسنّ والحسن وغير ذلك لا يدوم ، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه باطلان غيره بطريق الأولى.
فإن قيل : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ)؟
فالجواب : بأن كل شيء يترجح على غيره ، فإما أن يرجح بأمر فيه يلحقه ويرتب (٣)
__________________
(١) البغوي والخازن السابقين.
(٢) انظر الرازي ٢٨ / ١٣٧.
(٣) في ب ويترتب.