وجب أن يقال : كلّ من عمل صالحا واحدا من الصالحات فإنه يدخل الجنة ، ويرزق فيها بغير حساب ، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتنزيه والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الطاعات (١) ، وبأحسن الطاعات ، فوجب أن يدخل الجنة ، والخصم يقول : إنه يخلد في النار أبد الآباد ، وذلك مخالف لهذا النص الصريح. قالت المعتزلة : إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمنا ، ومرتكب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن ، فلا يدخل في هذا الوعد والجواب ما تقدم في قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فإن صاحب الكبيرة مؤمن فسقط كلامهم (٢).
فصل
دلت هذه الآية على اعتبار المماثلة في الشريعة ، وأن الزائد على المثل غير مشروع ، وليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرة في أي الأمور ، فلو حملناها على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عامة خاصة. وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال والتخصيص كان الأول أولى ، فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا ما خصّه الدليل وإذا ثبت ذلك بني عليه أحكام كثيرة من الجنايات على النفوس والأعضاء والأموال ؛ لأنه تعالى بين أنّ جزاء السيئة مقصور على المثل ، وبين أن جزاء الحسنة ليس مقصورا على المثل بل هو خارج عن الحساب (٣).
قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ.) قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ) قال الزمخشري : فإن قلت : لم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت : لأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل ، وتفسير له ، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو. وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة ، أي كلام مباين للأول والثاني ، فحسن إيراد الواو العاطفة فيه (٤). وكرر النداء لأن فيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظا من سنة الغفلة ، وأظهر أن له بهذا مزيد اهتمام ، وعلى أولئك الأقوام فرط شفقة.
قوله : (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) هذه الجملة مستأنفة ، أخبر عنهم بذلك بعد استفهام عن دعاء نفسه ويجوز أن يكون التقدير : وما لكم تدعونني إلى النار ، وهو الظاهر ، ويضعف أن تكون الجملة حالا ، أي ما لكم أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلى النار (٥).
__________________
(١) كذا في النسختين وفي الرازي : «الصالحات».
(٢) انظر الرازي المرجع السابق.
(٣) قاله الإمام الرازي بالمعنى في تفسيره ٢٧ / ٦٩.
(٤) الكشاف ٣ / ٤٢٩.
(٥) قال بهذه الإعرابات السمين في الدر المصون ٤ / ٦٩٨.