قوله : «تدعونني» هذه الجملة بدل من «تدعونني» الأولى على جهة البيان لها (١). وأتى في قوله «تدعونني» بجملة فعلية ؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها ، وفي قوله : (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ) بجملة اسميّة ؛ ليدل على ثبوت دعوته وتقويتها (٢).
فصل
معنى قوله : «ما لكم» كقولك : ما لي أراك حزينا ، أي ما لك ، يقول : أخبروني عنكم ، كيف هذه الحال؟ أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله ، وتدعونني إلى النار بالشرك الذي يوجب النار ، ثم فسر فقال (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ). والمراد بنفي العلم (٣) نفي الإله كأنه قال : وأشرك به ما ليس لي بإله ، وما ليس إله كيف يعقل جعله شريكا للإله؟
ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بيّن أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغفّار ، «العزيز» في انتقامه ممن كفر ، «الغفار» لذنوب أهل التوحيد. فقوله : «العزيز» إشارة إلى كونة كامل القدرة ، وأما فرعون فهو في غاية العجز ، فكيف يكون إلها؟ وأما الأصنام فهي حجارة منحوتة فكيف يعقل كونها آلهة؟ وقوله : «الغفّار» إشارة إلى أنهم يجب أن لا ييأسوا من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مدّة مديدة فإنّ إله العالم ، وإن كان عزيزا لا يغلب ، قادرا لا يعارض ، لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة (٤).
قوله : (لا جَرَمَ) تقدم الخلاف في (لا جَرَمَ) في سورة هود في قوله : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) [هود : ٢٢] ، وقال الزمخشري هنا : «وروي عن بعض العرب : لا جرم أنه يفعل كذا ـ بضم الجيم وسكون الراء ـ بمعنى : لا بدّ. وفعل وفعل أخوان كرشد ، ورشد ، وعدم ، وعدم» (٥). وشأنه على مذهب البصريين أن يجعل ردا لما دعاه إليه قومه (٦).
و «جرم» فعل بمعنى حق ، و «أنّ» مع ما في حيّزها فاعله ، أي وجب باطلان دعوته، أو بمعنى كسب من قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) [المائدة : ٢] أي بسبب ذلك الدعاء إليه باطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور باطلان دعوته (٧).
__________________
(١) قاله العكبري في التبيان ١١٢٠.
(٢) بالمعنى من البحر المحيط ٧ / ٤٦٧ ، وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٦٩٨.
(٣) في الرازي بنفي المعلوم.
(٤) انظر تفسير الإمام الفخري الرازي ٢٧ / ٧٠ والكشاف للعلامة الزمخشري ٣ / ٢٤٩.
(٥) الكشاف ٣ / ٤٢٩.
(٦) أي ليس الأمر كما تصفون ثم يبتدىء ما بعده.
(٧) هذا رأي الرازي في تفسيرة ٢٧ / ٧٠ آخذا إياه من الكشاف ٣ / ٤٢٩.