وثالثها : أن يقال : لما قدر على الأقوى الأكمل (فبأن) (١) يقدر على الأقل الأرذل كان أولى. وهذا استدلال في غاية الصحة والقوة ، ولا يرتاب فيه عاقل البتة. ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه وتعالى ويعلمون بالضرورة أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السماوات والأرض يكون قادرا على إعادة الإنسان الذي خلقه أولا فهذا برهان كلي في إفادة هذا المطلوب.
ثم إن هذا البرهان على قوته صار بحيث لا يعرفه أكثر الناس ، والمراد منه الذين ينكرون الحشر والنشر. فظهر بهذا المثال أنّ هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا حجة بل بمجرد الحسد والكبر والغضب.
ثم لما بين الله تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد ، والجهل كيف يكون؟ وأن الجدال بالحجة والبرهان كيف يكون؟ نبه تعالى على الفرق بين البيانين فقال : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) يعني : وما يستوي المستدل والجاهل المقلد ، ثم قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) فالمراد بالأول : التفاوت بين العالم والجاهل والمراد بالثاني : التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال السيئة الباطلة ، ثم قال : (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) يعني أنهم وإن كانوا (يعلمون) أن العلم خير من الجهل ، وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنه قليلا ما يتذكرون. فبين في النوع الأول المعنى من الاعتقاد أنه علم أو جهل ، وفي النوع الثاني المعنى من العمل أنه عمل صالح أو فاسد.
فصل
قوله : (وَالْبَصِيرُ)) اعلم أن التقابل يجيء على ثلاث طرق :
أحدها : أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية.
والثانية : أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) [هود : ٢٤].
والثالثة : أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) [فاطر : ١٩ ـ ٢٠]. وكل ذلك تفنن في البلاغة (٢).
وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٣).
__________________
(١) زيادة للسياق وانظر تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ٧٩.
(٢) وهو ما يسمى بالمقابلة كقوله عزّ من قائل أيضا : «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً» وانظر بغية الإيضاح للسكاكي ٤ / ١٤ ، ١٦ والفوائد المشوق ١٤٧ ، ١٥١.
(٣) البحر المحيط ٧ / ٢٧٢.