قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً ...) لما تقدم أن دلائل وجود الله تعالى وقدرته إما أن يكون من دلائل الآفاق وهي غير الإنسان وهي أقسام ، وذكر منها أحوال الليل والنهار كما تقدم ، وذكر منها أيضا ههنا الأرض والسماء فقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قرارا أي منزلا في حال الحرارة وبعد الممات والسماء بناء أي قائما ثابتا وإلا وقعت علينا. وقيل (١) : سقفا كالقبّة ، ثم ذكر دلائل الأنفس ، وهي دلالة أحوال بدن الإنسان على وجود الصانع القادر الحكيم ، وهو قوله : (صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ). قوله : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) قرأ أبو رزين والأعمش صوركم بكسر (٢) الصاد فرارا من الضمة قبل الواو. وقرأت فرقة بضم الصاد وسكون الواو ، وجعلوه اسم جنس لصورة ، كبسر وبسرة (٣).
فصل
قال مقاتل : خلقكم فأحسن خلقكم. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل ويتناول بيده ، وغير ابن آدم يتناول بفيه. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ، قيل : من غير (٤) رزق الدوابّ. ثم قال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ، ومعنى تبارك إمّا الدوام والتبيان وإما كثرة الخيرات. ثم قال : (هُوَ الْحَيُّ) وهذا يفيد الحصر ؛ ولأن لا حيّ إلا هو. ثم نبّه على الواحدانية فقال : لا إله إلا هو ثم أمر العباد بالإخلاص في الدعاء فقال : (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). ثم قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
والمراد أنه لما كان موصوفا بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له : الحمد لله رب العالمين (٥) وقال الفراء هو خبر ، وفيه إضمار الأمر ومجازه فادعوه واحمدوه (٦). وروى مجاهد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من قال : لا إله إلا الله فليقل على أثرها : الحمد لله رب العالمين ، فذلك قوله : فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (٧).
قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ
__________________
(١) ذكر هذه الآراء الرازي والبغوي في مرجعيهما السابقين.
(٢) من الشواذ غير المتواترات رواها أبو حيان في البحر ٧ / ٤٦٣ ، ومختصر ابن خالويه ١٣٢.
(٣) شاذة أيضا وذكرها أبو حيان في مرجعه السابق والسمين في الدر ٤ / ٧٠٦.
(٤) وانظر البغوي ٦ / ١٠٢.
(٥) الرازي ٢٧ / ٨٤.
(٦) معاني الفراء ٣ / ١٢ ، ١١.
(٧) القرطبي ١٥ / ٣٢٩.