وهي قراءة عبد الله وحقيق بأن لا أقول وهي قراءة أبىّ وفي المشهورة إشكال ، ولا تخلو من وجوه ، أحدها : أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس ، كقوله :
وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ (١)
ومعناه : وتشقى الضياطرة بالرماح ، وحقيق علىّ أن لا أقول ، وهي قراءة نافع. والثاني : أنّ ما لزمك فقد لزمته ، فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق ، أى لازماً له. والثالث : أن يضمن (حَقِيقٌ) معنى حريص ، كما ضمن «هيجنى» معنى ذكرني في بيت الكتاب. والرابع ـ وهو الأوجه ـ الأدخل في نكت القرآن : أن يعرق موسى (٢) في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدو الله فرعون قال له ـ لما قال (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)
__________________
ـ والمراد بشقاء السيف : انقطاعه في أضلاع المضروب ، كما صرح بذلك في قوله :
طوال الردينيات يقصفها دمى |
|
وبيض السريجيات يقطعها لحمى |
الوجه الثاني : قلب معرى عن هذا المعنى البليغ ، ولذلك لا يستفصح ، كقولهم : خرق الثوب المسمار وأشباهه ، وعلى الوجه الأول الأفصح جاءت الآية على هذه القراءة ، وهو الوجه الرابع من وجوه الزمخشري ، وفي طيه من المبالغة ما نبهت عليه. وأما الوجه الثاني وهو «أن ما لزمك فقد لزمته» ففيه نظر من حيث أن اللزوم قد يكون من أحد الطرفين دون الآخر ، ولزوم موسى عليه السلام لقول الحق من هذا النمط ، وأما الوجه الثالث فلا يلائم بين القراءتين ، وقد ذكر لها وجه خامس : وهو أن يكون «على» بمعنى الباء ، ونقل «رميت على القوس» بمعنى رميت بالقوس ، وهو وجه حسن ملائم ، والله أعلم. ويشهد له قراءة أبى : حقيق بأن لا أقول.
(١) كذبتم وبيت الله حين تعالجوا |
|
قوادم حرب لا تلين ولا نمرى |
نزلت بخيل لا هوادة بينها |
|
وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر |
لخداش بن زهير ، يقول لقومه : كذبتم وحق بيت الله : في دعواكم إمكان الصلح ، وهذا يعلم ضمنا من قوله «حين تعالجوا ، أو استعار الكذب للخطأ في الظن أو الرأى ، أى أخطأتم في ممارستكم الجماعات القادمات الحرب لأجل الصلح. ويشبه أن يكون قوله «تعالجوا» محرفا ، وأصله بالصاد والحاء بدل العين والجيم ، وعلى كل فحذف نونه للوزن أو للتخفيف ، و «لا تلين» صفة قوادم. وأمرت الناقة : در لبنها ، شبه الرضاء بالصلح بأمر الناقة. على طريق التصريح ، ثم نفاه وبين ذلك بقوله «نزلت بخيل» أى في أصحاب خيل. ويحتمل أن الخيل مجاز عن الفرسان ، أو كناية عنهم. وروى «وتلحق خيل» فهو عطف على «لا تلين» أى : وتسرع خيل منها. والهوادة : الصلح والبقية من القوم يرجى بها صلاحهم ، والمعنى أنهم لا يرجى صلحهم. وتشقى : أى تتعب الرماح بسبب الضياطرة ، وهو من باب القلب لا من اللبس. والمعنى : وتشقى الضياطرة بالرماح. والضيطر : الضخم الجبان. وقياس جمعه ضياطير ، إلا أنه عوض الهاء من الياء. والحمر عند العرب : كناية عن العجم ، لأنها تصف الحسن بالأخضر ، والقبيح بالأحمر. والمعنى : تتعب ضياطرتهم من حمل رماحهم. ويجوز أن المراد من طعن رماحنا. ويحتمل أن لا قلب ، وأنه بالغ في ضخمهم ، حتى كأن الرماح تتعب من طعنهم ، لكن الأول هو المنقول. والمعنى : لا تصالحوهم بل نحاربهم.
(٢) قوله «أن يعرق موسى» لعله : يغرق بالمعجمة. وفي الصحاح. أغرق النازع في القوس ، أى استوفى مدها. (ع)