(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٥٩)
جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة ، لأنّ المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن (١) المتوثق منها بالأغلاق والأقفال. ومن علم مفاتحها وكيف تفتح ، توصل إليها ، فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ، فهو المتوصل إلى ما في المخازن. والمفاتح : جمع مفتح وهو المفتاح. وقرئ مفاتيح ، وقيل : هي جمع مفتح ـ بفتح الميم ـ وهو المخزن. (وَلا حَبَّةٍ) ... (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) عطف على ورقة (٢) وداخل في حكمها ، كأنه قيل : وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه. وقوله (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كالتكرير لقوله (إِلَّا يَعْلَمُها) لأنّ معنى (إِلَّا يَعْلَمُها) ومعنى (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) واحد. والكتاب المبين : علم الله تعالى ، أو اللوح : وقرئ : ولا حبة. ولا رطب. ولا يابس ، بالرفع. وفيه وجهان : أن يكون عطفاً على محل (مِنْ وَرَقَةٍ) وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : كقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار.
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٦٠)
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الخطاب للكفرة ، أى أنتم منسدحون (٣) الليل كله
__________________
(١) قال محمود : «المفاتح استعارة ، لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن ... الخ» قال أحمد : إطلاق التوصل على الله تعالى ليس سديدا فانه يوهم تجدد وصول بعد تباعد إذ قول القائل توصل زيد إلى كذا يفهم أنه وصل بعد تكلف وبعد والله تعالى مقدس عن ذلك والغائب كالحاضر في علمه والعلم بالكائن هو العلم بما سيكون لا يتغاير ولا يختلف وليس لما أن نطلق مثل هذا الإطلاق إلا عن ثبت ، والله الموفق.
(٢) عاد كلامه. قال : «ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس ، عطف على ورقة وداخل في حكمها ... الخ» قال أحمد : وفائدة هذا التكرير التطرية لما بعد عهده ، لأنه لما عطف على ورقة بعد أن سلب الإيجاب لمقصود للعلم في قوله (إِلَّا يَعْلَمُها) وكانت هذه المعطوفات داخلة في إيجاب العلم وهو المقصود وطالت ، وبعد ارتباط آخرها بالإيجاب السالف كان ذلك جديراً بتجديد العهد بالمقصود ، ثم كان اللائق بالبلاغة المألوفة في القرآن التجديد بعبارة أخرى ، ليتلقاها السامع غضة جديدة غير مملولة بالتكرير. وهذا السر إنما ينقب عنه المسيطر في علم البيان ونسكت اللبان ، والله الموفق.
(٣) قوله «منسدحون» أى منسطحون على القفا ، أو منقلبون على الوجه أفاده الصحاح. (ع)