كقوله تعالى (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أو لأن الظلمات كثيرة ، لأن ما من جنس من أجناس الأجرام إلا وله ظل ، وظله هو الظلمة ، بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار. فإن قلت : علام عطف قوله (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١)؟ قلت : إما على قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق ، لأنه ما خلقه إلا نعمة ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكافرون نعمته وإما على قوله (خَلَقَ السَّماواتِ) على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. فإن قلت : فما معنى ثم؟ قلت : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته ، وكذلك (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)(٢)
(ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أجل الموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل القيامة. وقيل : الأجل الأوّل :
ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني : ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل : الأوّل النوم. والثاني : الموت. فإن قلت : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره (٢) فلم جاز تقديمه
__________________
ـ ولو قال الزمخشري. إن جمع الظلمات لاختلافها بحسب اختلاف ما ينشأ عنه من أجناس الأجرام ، وإفراد النور لاتحاد الجنس الذي ينشأ عنه وهو النار لكان أولى ، والله أعلم.
(١) عاد كلامه. قال : «فان قلت علام عطف ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ... الخ»؟ قال أحمد : وفي هذا الوجه الثاني نظر من حيث أن عطفه على الصلة يوجب دخوله في حكمها. ولو قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي) ، (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) لم يسند ، لخلو الجملة من العائد. ويمكن أن يقال : وضع الظاهر الذي هو (بِرَبِّهِمْ) موضع المضمر تفخيما وتعظيما. وأصل الكلام : الذي يعدل به الذين كفروا ، أو الذي الذين كفروا يعدلون به ، باتساع وقوعها صلة ، رعاية لهذا الأصل ، فهذا نظر من حيث الاعراب. ونظيره قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) فيمن جعل «ما» موصولة لا شرطية ، فان دخول جاءكم وما بعده في حكم الصلة يستدعى ضميراً عائداً إلى الموصول ، وهو مفقود لفظاً ، لأن الظاهر وضع فيه موضع المضمر. والأصل : ثم جاءكم رسول مصدق له ، فاستقام عطفه ودخوله في حكم الصلة بهذه الطريقة ، لكن بقي في آية الأنعام هذه نظر في المعنى على الاعراب المذكور ، وهو أنه يصير التقدير : الحمد لله الذي ، الذين كفروا يعدلون ، ووقوع هذا عقيب الحمد غير مناسب كما ترى. فالوجه ـ والله أعلم ـ عطفه على أول الكلام ، لا على الصلة ، والله الموفق.
(٢) قال محمود : «إن قلت المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب ... الخ» قال أحمد : وليس في إرادة هذا المعنى موجب للتقديم. وقد ورد (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) في سياق التعظيم لها ، وهو مع ذلك مؤخر عن الخبر في قبله (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالظاهر ـ والله أعلم ـ أن التقديم إنما كان لأن الكلام منقول من كلام آخر ، وكان الأصل ـ والله أعلم ـ ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ، إذ كلاهما مقضي. فلما عدل بالكلام عن العطف الافرادى تمييزا بين الأجلين رفع الثاني بالابتداء وأقر بمكانه من التقديم والله أعلم.