فصل
والوحي قد يكون اسما ومعناه الكتاب ، وقد يكون مصدرا وله معان منها الإرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارة والإفهام ، وهذه الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجتهد ، وهو خلاف الظّاهر فإنّه اجتهد في الحروب وأيضا حرم في قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ)(١) وأذن قال تعالى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣]. قوله (عَلَّمَهُ) يجوز أن تكون هذه الهاء للرسول وهو الظاهر فيكون المفعول الثاني محذوفا أي علّم الرسول الوحي أي الموحى ، ويجوز أن يكون للقرآن والوحي فيكون المفعول الأول محذوفا أي علمه الرسول ، والوحي إن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإلهام فهو كقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ)(٢) [الشعراء : ١٩٣ و ١٩٤].
وقوله : (شَدِيدُ الْقُوى) قيل : هو جبريل ، وهو الظاهر. وقيل : الباري تعالى لقوله : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ١ و ٢] و (شَدِيدُ الْقُوى) من إضافة الصفة المشبهة لمرفوعها فهي غير حقيقية (٣). والقوى جمع القوّة.
قوله : (ذُو مِرَّةٍ) المرة القوة والشدة. ومنه : أمررت الحبل أي أحكمت فتله. والمرير : الحبل ، وكذلك الممرّ كأنه كرّر فتله مرة بعد أخرى.
وقال قطرب ـ (رحمهالله (٤)) ـ : «العرب تقول لكل جزل الرأي حصيف العقل : ذو مرّة» وأنشد ـ (رحمهالله (٥)) ـ :
٤٥٤٥ ـ وإنّي لذو مرّة مرّة |
|
إذا ركبت خالة خالها (٦) |
وقال :
٤٥٤٦ ـ قد كنت قبل لقائكم ذو مرّة |
|
عندي لكلّ مخاصم ميزانه (٧) |
__________________
(١) عبارة الرازي : وحرم ما قال الله لم يحرم وأذن لمن قال تعالى : «عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» نقول : على ما ثبت لا تدل عليه الآية.
(٢) قال بهذه الإعرابات الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٨٤.
(٣) أي ليست محضة فهي في تقدير الانفصال ، كما تسمى إضافة لفظية والإضافة تلك المضاف فيها صفة تشبه المضارع في كونها مرادا بها الحال أو الاستقبال. وهذه الإضافة لا تفيد المضاف تعريفا وتسمى تلك الإضافة لفظية لأنها أفادت أمرا لفظيا وهو التخفيف بحذف التنوين وغير محضة كما سبق لأنها في تقدير الانفصال فإن المضاف فيها لا بد أن يكون وصفا عاملا وكثيرا ما يرفع ضميرا مستترا. بتصرف من «ضياء السّالك إلى أوضح المسالك» ٢ / ٣٢٤ إلى ٣٢٨.
(٤) زيادة من (أ) الأصل.
(٥) كذلك.
(٦) هذا البيت من المتقارب وأنشده قطرب فيما نقله أبو حيان في البحر ٨ / ١٥٤. والشاهد في «مرّة» حيث معناها العقل الممتاز والقطع بالرأي القوي كما أوضح.
(٧) من الكامل ، ولم أعرف قائله ، وشاهده : في «مرّة» معناها حصافة العقل ورجاحته. انظر القرطبي ١٧ / ٨٦ ، وفتح القدير ٥ / ١٠٥.