فالجواب من وجوه :
الأول : لا فساد في ذلك لقوله تعالى حكاية عن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦].
الثاني : ليس صريحا في الاستثناء فيجوز أن لا يكون نفسا.
الثالث : الاستثناء الكاشف المبالغ (١) ويحتمل أن يكون التاء للمبالغة كرواية ، وعلّامة ونسّابة أي ليس لها إنسان كاشفة أي كثير الكشف.
وإن كانت مصدرا ، فهي كالخائنة والعافية والعاقبة ، والمعنى ليس لها من دون الله كشف أي لا يكشف عنها ، ولا يظهرها غيره ، فيكون من كشف الشيء أي عرف حقيقة (٢) ، كقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧] وإما من كشف الضر أي أزاله. والمعنى ليس لها من يزيلها ويردها إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها أحد عنهم غيره. وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك (٣). وتقدم الكلام على مادة «أزف» في غافر.
و «من» زائدة ، تقديره ليس لها غير الله كاشفة ، وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه تقول : ما جاءني أحد ، وما جاءني من أحد ، وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير أي ليس لها من كاشفة دون الله فيكون نفيا عاما بالنسبة إلى الكواشف ، ويحتمل أن تكون غير زائدة ، والمعنى ليس لها في الوجود نفس تكشفها (٤) أي تخبر عنها كما هي من غير (٥) الله يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله كقولك : كشفت الأمر من زيد. و «دون» يكون بمعنى غير كقوله تعالى : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) [الصافات : ٨٦] أي غير الله.
قوله تعالى : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)(٦٢)
قوله : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) متعلق ب «تعجبون» ولا يجيء فيه الإعمال ، لأن من شرط الإعمال تأخير المعمول عن العوامل ، وهنا هو متقدم ، وفيه خلاف بعيد. وعليه تتخرج الآية الكريمة فإن كلّا من قوله : «تعجبون» و «تضحكون» و «لا تبكون» يطلب هذا الجار من حيث المعنى.
__________________
(١) اسما فاعل.
(٢) وهو رأى للرماني وجماعة كما أخبر بذلك صاحب البحر المحيط ٨ / ١٧٠.
(٣) البغوي والخازن في معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ٢٧١.
(٤) في الرازي : تكتشفها.
(٥) وفيه : كما هي ومتى وقتها من غير الله.