كما تجزم «لم». قال مكي : وهذا خطأ ، لأن «لم» تنفي الماضي وتردّ المستقبل ماضيا ، و «ما» تنفي الحال ، فلا يجوز أن يقع إحداهما موقع الأخرى لاختلاف معنييهما (١).
فصل
المعنى أن القرآن حكمة بالغة تامة قد بلغت الغاية. وقوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) إن كانت «ما» نافية فالمعنى أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الإيمان ، وإنما أرسلوا مبلغين كقوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ)(٢) [الشورى : ٤٨] ويؤيد هذا قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) وإن كانت استفهامية فالمعنى : وأي شيء تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم؟ كقوله : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي إنك أتيت بما عليك من الدعوى فكذبوا بها وأنذرتهم بما جرى على المكذبين ، فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر؟ فتول عنهم.
قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)
قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم. قال أكثر المفسرين : نسختها آية السيف.
قال ابن الخطيب إن قول المفسرين في قوله : «فتولّ» منسوخ ليس كذلك ، بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام (٣).
قوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) «يوم» منصوب إما ب «اذكر» مضمرة وهو أقربها. وإليه ذهب الرّمّانيّ (٤) ، والزمخشري (٥) وإما ب «يخرجون» بعده. وإليه ذهب الزمخشري أيضا (٦) ، وإما بقوله : (فَما تُغْنِ) ويكون قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) اعتراضا ، وإما منصوبا بقوله : (يَقُولُ الْكافِرُونَ). وفيه بعد لبعده عنه (٧).
وقيل : تم الكلام عند قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) ويبتدأ بقوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) فيكون منصوبا بقوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ). وهو ضعيف جدا ؛ لأن المعنى ليس أمره بالتولية عنهم في يوم النفخ في الصور ، وإمّا منصوب بحذف الخافض أي فتول عنهم إلى يوم. قاله الحسين (٨) وضعف من حيث اللّفظ ومن حيث المعنى أما اللفظ ، فلأن إسقاط الخافض غير
__________________
(١) قاله في مشكل الإعراب له ٢ / ٣٣٦ و ٣٣٥.
(٢) وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي ١٥ / ٣٣.
(٣) وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي ١٥ / ٣٣ والآيات ٤٨ من الشورى و ١٠١ من يونس.
(٤) نقله عن صاحب البحر ٨ / ١٧٥.
(٥) الكشاف ٤ / ٣٦.
(٦) المرجع السابق.
(٧) قال بهذين الوجهين ناقلا في كتابه صاحب البحر المرجع السابق.
(٨) كذا في (أ) وفي البحر و (ب) الحسن. وهو الأصح فهو الحسن البصري.