وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(١٧)
قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) مفعوله محذوف أي كذبت الرّسل (١) ؛ لأنهم لما كذبوا نوحا فقد كذبوا جميع الرسل. ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ؛ إذ لو كانت منه لكان التقدير: كذبت قبلهم قوم نوح عبدنا فكذبوه ولو لفظ بهذا لكان تأكيدا ؛ إذ لم يفد غير الأول ، وشرط التنازع أن لا يكون الثاني تأكيدا ، ولذلك منعوا أن يكون قوله :
٤٥٩٢ ـ .......... |
|
أتاك أتاك اللّاحقون احبس احبس (٢) |
من ذلك.
وفي كلام الزمخشري ما يجوزه ، فإنه أخرجه عن التأكيد ، فقال : فإن قلت : ما معنى قوله «فكذّبوا» بعد قوله : «كذّبت»؟
قلت : معناه كذبوا فكذبوا عبدنا أي كذبوا تكذيبا عقب (٣) تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذّب تبعه قرن مكذّب (٤). هذا معنى حسن يسوغ معه التنازع (٥).
فصل
لما فرغ من حكاية كلام الكافر ، ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال: كذبت قبلهم قوم نوح أي قبل أهل مكة. واعلم أن إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز وحسن بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيح عند أكثرهم ، فلا يجوزون : كذّبوا قوم نوح ويجوزون : كذّبت فما الفرق؟
__________________
(١) قاله أبو حيان في البحر ٨ / ١٧٦.
(٢) عجز بيت من الطويل مجهول قائله ، وصدره :
فأين إلى أين النّجاء ببغلة |
|
.......... |
والفاء للعطف ، و «أين» للاستفهام متعلق بمحذوف ، أي فأين تذهب والنّجاء بالمد الإسراع وهو مبتدأ وخبره : إلى أين مقدما. والشاهد في : أتاك أتاك اللاحقون فإنهما عاملان في اللفظ ولكن الثاني منهما لا يقتضي إلا التأكيد ، إذ لو كان عاملا لقيل : أتوك أتاك ، أو أتاك أتوك. وهذا البيت يشبه في عدم التنازع قوله :
.......... |
|
كفاني ولم أطلب قليل من المال |
فإن الثاني لم يطلب «قليل» ؛ إذ المراد كفاني قليل من المال ، وانظر حاشية الصبان على الأشموني ٢ / ٩٨ والتصريح ١ / ٣١٨ والهمع ٢ / ١١١ و ١٢٥ والدرر ٢ / ١٤٥ و ١٩٨ وشرح الشواهد على الأشموني ٢ / ٩٨ وأمالي الشجري ١ / ٢٤٣.
(٣) في الكشاف : على عقب.
(٤) قال : أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا ، لأنه من جملة الرسل.
(٥) حيث قال : كذبوا فكذبوا عبدنا.