فصل
إذا قلنا : بأن الخلق الأول هو خلق السموات فهذا ابتداء استدلال بخلق الإنسان ، وإذا قلنا : بأن الخلق الأول هو خلق الإنسان فهذا تتميم للاستدلال بأن خلق الإنسان أول مرة ، وقوله (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي يحدث به قلبه ، ولا يخفى علينا سرائره وضمائره (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) لأن أبعاضه تحجب بعضها بعضا ولا يحجب علم الله شيء ، وهذا بيان لكمال علمه (١).
قوله : (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) كقولهم : مسجد الجامع ، أي حبل العرق الوريد (٢). أو لأنّ الحبل أعم فأضيف للبيان نحو : بعير سانية (٣) أو يراد : حبل العاتق (٤) فأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لأنهما في عضو واحد (٥). قال البغوي : حبل الوريد عرق العنق وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين تتفرق في البدن ، والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين (٦). والوريد إما بمعنى الوارد وإما بمعنى الورود. والوريد عرق كبير في العنق. فقال : إنهما وريدان. قال الزمخشري : عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدّمهما يتصلان بالوتين يردان من الرأس إليه يسمى وريدا لأنّ الروح ترد إليه (٧) وأنشد :
٤٥١٠ ـ كأنّ وريديه رشاءا خلّب (٨)
وقال أبرم (٩) : هو نهر الجسد وفي القلب الوتين ، وفي الظهر الأبهر ، وفي الذراع والفخذ الأكحل واللسان وفي الخنصر الأسلم.
قوله : (إِذْ يَتَلَقَّى) ظرف ل (أَقْرَبُ) ويجوز أن يكون منصوبا باذكر (١٠). والمعنى إذ
__________________
(١) الرازي المرجع السابق ٢٨ / ١٦٢.
(٢) فيجوز فيه ما جاز في مسجد الجامع هل أضيف إلى نفسه أو إلى مقدر.
(٣) من معاني السانية الناضحة وهي الناقة التي يستقى عليها وقال الليث : السانية وجمعها السواني ما يسقى عليه الزرع والحيوان من بعير وغيره. انظر لسان العرب «سنا» ٢١٢٩ ، فكأن البعير أخص أضيف إلى الأعم وهو السانية.
(٤) وهو ما بين المنكب والعنق مذكر وقد أنث وليس بثبت. اللسان «عنق» ٢٨٠٠.
(٥) كما قالوا : حبل العلباء مثلا وانظر الكشاف ٤ / ٦ والبحر ٨ / ١٢٣.
(٦) معالم التنزيل له ٦ / ٢٣٥.
(٧) بالمعنى من الكشاف المرجع السابق.
(٨) رجز لرؤبة وهو في ملحقات ديوان رؤبة والكتاب ٣ / ١٦٤ و ١٦٥ ، وابن يعيش ٨ / ٧٢ والمقتضب ١ / ٥٠ والإنصاف ١٩٨ واللسان «خلب» والبحر ٨ / ١١٢٩ والتصريح ١ / ٢٣٤ والكشاف ٤ / ٦ وشرح شواهده ، والرشاء الحبل ؛ والخلب بالضم الليف ، والرواية الأعلى رواية الكشاف بالتثنية وقبل الشطر : ومعتد فظّ غليظ القلب. وبعده : غادرته مجدلا كالكلب.
(٩) كذا في النسختين ولعله إبراهيم أي النخعي.
(١٠) ذكره البحر ٨ / ١٢٣.