الإنذارات التي هي نعم ورحمة تواترت ، فلما لم ينفع (١) وقع العذاب دفعة واحدة فكانت النعم كثيرة والنقمة واحدة.
قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(٣٢)
قوله : (كَذَّبَتْ (ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) اعلم أنّه تعالى لم يقل في قوم نوح : كذّبت قوم نوح) (٢) بالنذر» وكذلك في قصة عاد. لأن المراد بقوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أن عادتهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحا على مذهبهم وعادتهم.
وإنما صرح ههنا ، لأن كل قوم يأتون بعد قوم ، فالمكذّب المتأخر يكذب المرسلين جميعا حقيقة ، والأولون يكذبون رسولا واحدا حقيقة ويلزم منه تكذيب من بعده تبعا ، ولهذا المعنى قال في قوم نوح : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] وقال في عاد : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) [هود : ٥٩] فذكر بلفظ الجمع المستغرق ثم إنه تعالى قال عن نوح : (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) [الشعراء : ١١٧] ولم يقل : كذّبوا رسلك إشارة إلى ما صدر منهم حقيقة لا إلى ما لزم منه ، وقوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) إن قلنا : إن النذر هم الرسل فهو كما تقدم ، وإن قلنا : إن النذر هي الإنذارات فنقول (٣) : قوم نوح وعاد لم تستمر المعجزات التي ظهرت في زمانهم.
وأما ثمود فأنذروا وأخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تدور بينهم وكذبوا فكان تكذيبهم بإنذارات وآيات ظاهرة فصرّح بها (٤).
قوله : (أَبَشَراً) منصوب على الاشتغال وهو الراجح ، لتقدم أداة (٥) هي بالفعل أولى. و «منّا» نعت له. و «واحدا» فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نعت «لبشرا» إلا أنه يشكل عليه تقديم الصفة المؤولة (٦) على
__________________
(١) في ب يقع.
(٢) ما بين القوسين سقط من أالأصل ؛ بسبب انتقال النظر.
(٣) في ب فيقولون.
(٤) قال بهذه الإعمالات العقلية الاجتهادية فخر الدين الرازي في مرجعه السابق.
(٥) وهي أداة الاستفهام. والتقدير : أنتّبع بشرا نتّبعه؟
(٦) وهي منّا أي كائنا منّا فإن الجار والمجرور والظرف لهما متعلّق دوما.