قال ابن الخطيب : وأفرد «الدّبر» هنا وجمع في غيره ؛ لأن الجمع هو الأصل ، لأن الضمير ينوب مناب تكرار العاطف فكأنه قيل : تولى هذا وهذا. وأفرد لمناسبة المقاطع. وفيه إشارة إلى أن جميعهم يكونون في الانهزام كشخص واحد ، وأما قوله : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) فجمع لأن كل واحد برأسه منهيّ عن رأسه ، وأما قوله : «ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار» أي كل واحد قال : أنا أثبت ولا أولّي دبري (١).
فصل
قال مقاتل : ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال : نحن نقتصّ اليوم من محمّد وأصحابه فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ).
وقال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) (٢) يقول : لما نزل : سيهزم الجمع ويولّون الدّبر كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يثب في درعه ويقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أعظم نائبة وأشدّ مرارة من الأسر والقتل يوم بدر (٣) ، وفي رواية (٤) أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كان يثب في درعه ويقول : «اللهمّ إنّ قريشا حادّتك وتحادّ رسولك بفخرها بخيلها (٥) فأخنهم (٦) العداوة» ، ثم قال : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). وقال عمر (٧) ـ (رضي الله عنه) ـ : فعرفت تأويلها. وهذا من معجزات رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين ، فالآية على هذا مكية. وفي البخاري عن عائشة أمّ المؤمنين ـ (رضي الله عنهما) ـ قالت : لقد أنزل على محمّد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بمكة ، وإني لجارية ألعب : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). وعن ابن عباس (ـ رضي الله عنهما ـ) أن النبي صلىاللهعليهوسلم ـ قال وهو في قبّة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك ، اللهمّ إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا». فأخذ أبو بكر بيده وقال : حسبك يا رسول الله قد ألححت على ربّك وهو في الدّرع فخرج وهو يقول : سيهزم الجمع ويولّون الدّبر بل السّاعة موعدهم والسّاعة أدهى وأمرّ.
__________________
(١) بالمعنى من تفسير العلامة الرازي في تفسيره الكبير ١٥ / ٦٨ و ٦٩. والآيات المذكورة في تلك الفقرة من الآية ١٥ من الأنفال ومن الآية ١٥ من الأحزاب.
(٢) زيادة من أ.
(٣) وانظر البغوي ٦ / ٢٧٨.
(٤) رواها سعد بن أبي وقاص عن سعيد بن جبير وانظر القرطبي ١٧ / ١٤٦.
(٥) في نسخة ابن هشام في سيرته : بفخرها وخيلائها.
(٦) أي أهلكهم وأت عليهم.
(٧) في القرطبي أنه سعد بن أبي وقّاص.