فصل فيمن اعتبر الصدقة واجبة أو مندوبة (١)
ظاهر الآية يدلّ على أن تقديم الصّدقة كان واجبا ؛ لأن الأمر للوجوب ، ويؤكد ذلك بعده قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه.
وقيل : كان مندوبا بقوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الواجب ، ولأنه لو كان واجبا لما أزيل وجوبه لكلام متصل به وهو قوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا) [إلى آخر الآية](٢).
__________________
ـ مبني على التفقه في بعض الأحكام المنصوصة ومعرفة قصد الشارع فيها إلى مصلحة بعينها ، حتى إذا وجدت هذه المصلحة في واقعة أخرى أخذت حكم الواقعة المصرح بها.
ولا نزاع في عدم الاعتداد بالمصالح التي قام الدليل الشرعي على إلغائها ، والشارع الحكيم لا يلغي مصلحة إلا إذا عارضتها مصلحة أرجح منها ؛ أو استتبعت مفسدة لا يستخف بأمرها ، ومثال هذا الاستسلام للعدو : قد يبدو أن فيه مصلحة حفظ النفوس من القتل ، ولكن الشارع رأى أن هذه المصلحة مغمورة بالمفاسد من كل جانب ، فلم يعتد بها وأذن في دفاع العدو نظرا إلى مصلحة أرجح منها ، وهي احتفاظ الأمة بالعزة والكرامة والتمكن من المسابقة في مضمار الحياة.
ومن هذا الباب تعدد الزوجات : يتبعه من الضرر أن تتألم المرأة من أن تشاركها في صلة الزوجية امرأة أخرى ، ففي ترك التعدد مصلحة هي قطع وسيلة استياء الزوجة ، ولكن الشارع ألغى هذه المصلحة مكتفيا بما اشترطه من العدل بين الزوجات ، وأباح التعدد نظرا إلى ما قد يترتب عليه من المصالح ، كتكثير النسل ، ومساعدة الرجل على تجنب الحرام الذي قد يقع فيه صاحب الزوجة الواحدة إذا عرض مانع من التمتع بها مثل المرض والنفاس.
ويبقى النظر في المصالح التي لم يقم دليل معين على رعايتها أو على إلغائها ، وهذه هي التي تسمى المصالح المرسلة ، وقد اعتد بهذه المصالح كثير من الفقهاء ، وبنوا بعض الفتاوى على رعايتها ، والجاري على بعض الألسنة والأقلام أنها أصل من أصول المذهب المالكي ، والواقع أن لها يدا في سائر المذاهب المعول عليها ، وللمالكية القسط الأوفر في استثمارها ، قال ابن دقيق العيد : الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع ، ويليه أحمد بن حنبل ، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة ، ولكن لهذين ترجيح في استعماله. وقال البغدادي في «جنة الناظر» : لا تظهر مخالفة الشافعي لمالك في المصالح ، فإن مالكا يقول : إن المجتهد إذا استقرأ موارد الشرع ومصادره ، أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح في جزئياته وكلياته ، وأن لا مصلحة إلا وهي معتبرة في جنسها ، لكنه استثنى من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة ، وما حكاه أصحاب الشافعي عن الشافعي لا يعدو هذه المقالة.
ولهذه القاعدة أمثلة مسوقة في كتب الأصول من فتاوى السلف وأقضيتهم.
ينظر : البحر المحيط للزركشي ٦ / ٧٦ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٤ / ١٣٩ ، نهاية السول للإسنوي ٤ / ٣٨٥ ، منهاج العقول للبدخشي ٣ / ١٨٤ ، التحصيل من المحصول للأرموي ٢ / ٣٣١ ، المنخول للغزالي ٣٥٣ ، الإبهاج لابن السبكي ٣ / ١٨٨ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ٢ / ٢٨٩ ، إرشاد الفحول للشوكاني ٢٤١.
وينظر المختصر لابن اللحام (١٦٢) ، وتقريب الوصول (١٤٨).
(١) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ٢٣٦.
(٢) سقط من أ.