وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة ، يقال : آثرته بكذا ، أي : خصصته به وفضلته ، ومفعول الإيثار محذوف ، أي : يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها.
فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء؟.
فالجواب (١) : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق به بالصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ، فأما الأنصار الذين أثنى الله ـ تعالى ـ عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فكانوا كما قال الله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة : ١٧٧].
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك ، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.
كما روي أن رجلا جاء إلى النبي بمثل البيضة من الذهب ، فقال هذه صدقة ، فرماه بها ، وقال : «يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ، ثم يقعد فيتكفف الناس» انتهى.
فصل في الإيثار بالنفس (٢)
الإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس.
ومن الأمثال : [البسيط]
٤٧٤٨ ـ الجود بالمال جود ومكرمة |
|
والجود بالنفس أقصى غاية الجود (٣) |
وأفضل من الجود بالنفس الجود على حما ية رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
ففي الصحيح : أن أبا طلحة ترس على النبي صلىاللهعليهوسلم يوم أحد ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله ، لا يصيبونك ، نحري دون نحرك يا رسول الله وو قى بيده رسول الله صلىاللهعليهوسلم فشلت.
وقال حذيفة العدوي : انطلقت يوم «اليرموك» أطلب ابن عم لي [ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أن
__________________
(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٩ ،
(٢) ينظر : السابق ١٨ / ٢٠.
(٣) قائل البيت هو مسلم بن الوليد وروآية الشطر الأول في الديوان :
تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها
ويروى :
تجود بالنفس إذ ضن الجواد بها
ينظر ديوانه ص ١٦٤ ، والقرطبي ١٨ / ٢٠.