قريش من هذا المثل (يَصِدُّونَ) ترتفع لهم جلبة وضجيج (١) فرحا وجزلا وضحكا بما سمعوا منه من إسكات رسول الله صلى الله عليه وسلم بجدله ، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعيوا بحجة ثم فتحت عليهم. وأمّا من قرأ : يصدّون ـ بالضم ـ فمن الصدود ، أى : من أجل هذا المثل يصدّون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل : من الصديد وهو الجلبة ، وأنهما لغتان نحو : يعكف ويعكف ونظائر لهما (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) يعنون أنّ آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، وإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا (ما ضَرَبُوهُ) أى ما ضربوا هذا المثل (لَكَ إِلَّا جَدَلاً) إلا لأجل الجدل والغلبة في القول ، لا لطلب الميز بين الحق والباطل (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) لدّ شداد الخصومة دأبهم اللجاج ، كقوله تعالى (قَوْماً لُدًّا) وذلك أنّ قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ما أريد به إلا الأصنام ، وكذلك قوله عليه السلام : «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» إنما قصد به الأصنام ، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة ، إلا أن ابن الزبعرى بخبه وخداعه وخبث دخلته (٢) ، لما رأى كلام الله ورسوله محتملا لفظه وجه العموم ، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير ، وجد للحيلة مساغا ، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله ، على طريقة المحك والجدال (٣) وحب المغالبة والمكابرة ، وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) فدل به على أنّ الآية خاصة في الأصنام ، على أنّ الظاهر قوله (وَما تَعْبُدُونَ) لغير العقلاء. وقيل : لما سمعوا قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) قالوا. نحن أهدى من النصارى ، لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة ، فنزلت. وقوله (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) على هذا القول : تفضيل لآلهتهم على عيسى ، لأنّ المراد بهم الملائكة وما ضربوه لك إلا جدلا. معناه : وما قالوا هذا القول ، يعنى : ء آلهتنا خير أم هو. إلا للجدال ، وقرئ : أآلهتنا خير ، بإثبات همزة الاستفهام وبإسقاطها ، لدلالة أم العديلة عليها. وفي حرف ابن مسعود : خير أم هذا. ويجوز أن يكون جدلا حالا ، أى : جدلين. وقيل : لما نزلت (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ) قالوا : ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده وأنه يستأهل أن يعبد وإن كان بشرا ، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر. ومعنى (يَصِدُّونَ) يضجون ويضجرون. والضمير في (أَمْ هُوَ) لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم : السخرية به والاستهزاء. ويجوز أن يقولوا ـ لما أنكر عليهم قولهم : الملائكة بنات الله وعبدوهم ـ ما قلنا بدعا من القول ،
__________________
(١) قوله «ترتفع لهم جلبة وضجيج» أى صياح وكذا اللجب. أفاده الصحاح. (ع)
(٢) قوله «وخبث دخلته» بالضم : باطن أمره. أفاده الصحاح ، (ع)
(٣) قوله «على طريقة المحك» أى : اللجاج ، كما في الصحاح. (ع)