شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٤)
(بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أى من قبل هذا الكتاب وهو القرآن ، يعنى : أنّ هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك. وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأوّلين ، من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من شحم ، أى : على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. وقرئ : أثرة ، أى : من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم. وقرئ : أثرة بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء ، فالإثرة بالكسر بمعنى الأثرة. وأما الأثرة فالمرّة من مصدر : أثر الحديث إذا رواه. وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر ، كالخطبة : اسم ما يخطب به
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ)(٥)
(وَمَنْ أَضَلُ) معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام ، (١) حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام ، ويدعون من دونه جمادا لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس : كانوا لهم أعداء ، وكانوا عليهم ضدا ، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة ، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة ، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم. وإنما قيل (مَنْ) و (هُمْ) لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة ، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلا وغباوة. ويجوز أن يريد : كلّ معبود من دون الله من الجن
__________________
(١) قال محمود : «استفهام معناه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام ... الخ» قال أحمد : وفي قوله إلى يوم القيامة : نكتة حسنة ، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة ، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها ، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية ، لأنهم في القيامة أيضا لا يستجيبون لهم ، فالوجه والله أعلم : أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني ، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشىء وضده ، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة ، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم ، فهو من وادى ما تقدم آنفا في سورة الزخرف في قوله (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ).