وهذه السورة مشتملة على ذكر من كان يكذّب قلبا دون اللسان ، ويصدقه لسانا دون القلب.
وأما تعلق الأول بالآخر ، فلأن في آخر تلك السّورة تنبيه للمؤمنين على تعظيم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ورعاية حقّه بعد النداء لصلاة الجمعة ، وتقديم متابعته على غيره ، فإنّ ترك التعظيم والمتابعة من شيم المنافقين ، والمنافقون هم الكاذبون.
فصل في نزول السورة
روى البخاري عن زيد بن أرقم ، قال : كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبيّ ابن سلول يقول : «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا» ، وقال : «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ» ، فذكرت ذلك لعمي ، فذكر عمي لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا ، فصدّقهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكذّبني فأصابني همّ لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) إلى قوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ، وقوله : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ، فأرسل إليّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم قال : «إنّ الله قد صدقك»(١).
وروى الترمذي عن زيد بن أرقم ، قال : «غزونا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان معنا أناس من الأعراب ، فكنّا نبدر الماء ، أي : نقسمه ، وكان الأعراب يسبقوننا إلى الماء ، فيسبق الأعرابي أصحابه ، فيملأ الحوض ، ويجعل حوله حجارة ، ويجعل النّطع عليه حتى يجيء أصحابه ، قال : فأتى رجل من الأنصار أعرابيّا فأرخى زمام ناقته لتشرب ، فأبى أن يدعه ، فانتزع حجرا ففاض الماء ، فرفع الأعرابيّ خشبة ، فضرب بها رأس الأنصاريّ فشجّه ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره ـ وكان من أصحابه ـ فغضب عبد الله بن أبي ، ثم قال : «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا» من حوله ، يعني : الأعراب ، وكانوا يحضرون رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند الطعام ، فقال عبد الله : فإذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام فليأكل هو ومن عنده ، ثم قال لأصحابه : «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ».
قال زيد : وأنا ردف عمي ، فسمعت عبد الله بن أبي ، فأخبرت عمي ، فانطلق ، فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأرسل إليه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فحلف وجحد قال : فصدّقه رسول الله
__________________
(١) أخرجه البخاري (٨ / ٥١٢) كتاب التفسير سورة المنافقون ، باب قوله : إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ رقم (٤٩٠٠) من حديث زيد بن أرقم.