قال شهاب الدين (١) : «وهذا الوجه الذي جعله هو الظاهر يعزيه الناس لأهل الزّيغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى ، وقد أطنب مكي في ذلك ، وأنكر على القائل به ، ونسبه إلى ما ذكرت ، فقال (٢) : وقد قال بعض أهل الزيغ : إن «من» في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ليخرج الكلام عن عمومه ، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى ، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلم ما خلق ؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما ، ولو أتت «ما» في موضع «من» لكان فيه أيضا بيان العموم أن الله خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم أسروها ، أو أظهروها خيرا كانت ، أو شرا ، ويقوي ذلك (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ولم يقل : عليم بالمسرين والجاهرين ، ويكون «ما» في موضع نصب ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم إذا جعلت «ما» في موضع نصب اسما للأناس المخاطبين قبل هذه الآية ، وقوله : (بِذاتِ الصُّدُورِ) يمنع من ذلك» انتهى.
قال شهاب الدين (٣) : ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره ، والمعنى الذي أبداه ، وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين ، ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه.
قال الزمخشريّ بعد كلام ذكره (٤) : ثم أنكر أن يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر (مَنْ خَلَقَ) الأشياء ، وحاله أنه اللطيف الخبير المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ، ويجوز أن يكون (مَنْ خَلَقَ) منصوبا بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ، ثم قال : فإن قلت : قدرت في (أَلا يَعْلَمُ) مفعولا على معنى ألا يعلم ذلك المذكور ما أضمر في القلب ، وأظهر باللسان من خلق ، فهلّا جعلته مثل قولهم : هو يعطي ويمنع؟ وهلا كان المعنى : ألا يكون عالما من هو خالق ؛ لأن الخلق لا يصلح إلا مع العلم؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) لأنك لو قلت : ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحا ؛ لأن (أَلا يَعْلَمُ) معتمد على الحال ، والشيء لا يوقف بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا ، وهو عالم بكل شيء».
فصل في معنى الآية
معنى الآية : ألا يعلم السّر من خلق السر ، يقول : أنا خلقت السر في القلب ، أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد؟.
قال أهل المعاني (٥) : إن شئت جعلته من أسماء الخالق ـ عزوجل ـ ويكون
__________________
(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٤.
(٢) ينظر المشكل ٢ / ٧٤٦.
(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٤.
(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٧٩.
(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٤٠.