وأجاب الجبائيّ : بأن معنى قوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي : إلى العذاب (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) في الآخرة ، (وَأُمْلِي لَهُمْ) في الدنيا توكيدا للحجة عليهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) فأمهله ، وأزيح الأعذار عنه (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] ، ويدل على هذا قوله قبل ذلك : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) ولا شك أن هذا التهديد إنما هو بعذاب الآخرة ، فوجب أن يكون الاستدراج والكيد المذكور عقيبه هو عذاب الآخرة وأجاب الأصحاب : أن هنا الإمهال إذا كان مؤديا إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضيا بذلك الطغيان.
قوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً). عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي : أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله ، والمغرم : الغرامة فهم من غرامة ذلك مثقلون ، أي : يثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال ، فيثبطهم ذلك عن الإيمان.
والمعنى : ليس عليهم كلفة في متابعتك ، بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.
قوله : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) ، أي : علم ما غاب عنهم (فَهُمْ يَكْتُبُونَ).
وقيل : أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون ، وعن ابن عباس : الغيب هنا هو اللوح المحفوظ ، فهم يكتبون منه ثواب ما هم عليه من الكفر ، ويخاصمونك به ، ويكتبون أنهم أفضل ، وأنهم لا يعاقبون (١).
وقيل : «يكتبون» أي : يحكمون ما يريدون ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.
قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)(٥٢)
قوله (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : لقضاء ربّك ، والحكم هنا القضاء.
وقيل : اصبر على ما حكم به عليك ربّك من تبليغ الرسالة.
وقال ابن بحر : فاصبر لنصر ربك.
وقيل : منسوخ بآية السيف (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يعني يونس ـ عليهالسلام ـ أي : لا تكن مثله في الغضب ، والضجر ، والعجلة.
وقال قتادة : إن الله تعالى يعزي نبيه صلىاللهعليهوسلم ويأمره بالصبر ، ولا يعجل كما عجل يونس
__________________
(١) ينظر المصدر السابق.