فصل في نسخ الأمر بقيام الليل
اختلفوا في الناسخ للأمر بقيام الليل ، فعن ابن عباس وعائشة : أن الناسخ قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) إلى آخرها ، وقيل : قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) وعن ابن عباس أيضا : أنه منسوخ بقوله «علم أن سيكون منكم مرضى» (١) ، وعن عائشة أيضا ، والشافعي وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس (٢) ، وقيل : الناسخ قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ).
قال أبو عبد الرحمن السلمي : لما نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ثم نزل قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ)(٣).
قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض كان على النبي صلىاللهعليهوسلم خاصة لفضله كما قال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ).
قال القرطبيّ (٤) : «والقول الأول يعم جميع هذه الأقوال ، وقد قال تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣]. فدخل فيها قول من قال : إن الناسخ الصلوات الخمس ، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل كانت فريضة على كلّ مسلم ، ولو على قدر حلب شاة ، وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة ، وهو الصحيح ـ إن شاء الله تعالى ـ لما جاء في قيامه من الترغيب ، والفضل في القرآن ، والسنة».
قالت عائشة رضي الله عنها : كنت أجعل للنبي صلىاللهعليهوسلم حصيرا يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فلما رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتنحنحون ، ويتفلون ، فخرج إليهم فقال : «أيّها النّاس تكلّفوا من العمل ما تطيقون ، فإنّ الله لا يملّ من الثواب حتّى تملّوا من العمل ، وإنّ خير العمل أدومه ، وإن قلّ» ، فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)(٥) ، فكتب عليهم ، وأنزل بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل ، فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهر ، فنزل قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) ، فردهم الله إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل ، إلا ما تطوعوا به.
قال القرطبيّ (٦) : ومعنى حديث عائشة رضي الله عنها ثابت في الصحيح ، إلى
__________________
(١) سيأتي تخريجه.
(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٢٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر ومحمد بن نصر.
(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٢٥.
(٥) أخرجه البخاري (١ / ١٠٩ ـ ١١٠) ومسلم (٨٧٢) ومالك في «الموطأ» (١ / ١١٨ وأبو داود (١ / ٢١٨) من حديث عائشة.
(٦) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٢٥.