حكى الزمخشريّ : أن أنسا قرأ (١) : «وأصوب قيلا» ، فقيل له : يا أبا حمزة إنما هي (وَأَقْوَمُ) ، فقال : إن أقوم ، وأصوب وأهيأ ، واحد. وأنّ أبا السرار الغنوي كان يقرأ : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) [الإسراء : ٢٥] ـ بالحاء المهملة ـ فقيل له : هي بالجيم فقال : جاسوا وحاسوا واحد.
قال شهاب الدين (٢) : «وغرضه من هاتين الحكايتين ، جواز قراءة القرآن بالمعنى ، وليس في هذا دليل ؛ لأنه تفسير معنى ، وأيضا ، فالذي بين أيدينا قرآن متواتر ، وهذه الحكاية آحاد ، وقد تقدم أن أبا الدرداء كان يقرىء رجلا : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣] ، فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم ، فلما تبرم منه قال : طعام الفاجر يا هذا ، فاستدل به على ذلك من يرى جوازه ، وليس فيه دليل ، لأن مقصود أبي الدرداء بيان المعنى فجاء بلفظ مبين».
قال الأنباري : وذهب بعض الزائغين إلى أن من قال : إن من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن ، فهو مصيب إذا لم يخالف ولم يأت بغير ما أراد الله ، واحتجوا بقول أنس هذا ، وهذا قول لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إلى قائله ، لأنه لو قرىء بألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها ، واشتملت على غايتها لجاز أن يقرأ في موضع («الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : الشكر للباري ملك المخلوقين ، ويتسع الأمر في هذا ، حتى يبطل لفظ جميع القرآن ، ويكون التالي له مفتريا على الله ـ تعالى ـ كاذبا على رسوله صلىاللهعليهوسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود : «نزل القرآن على سبعة أحرف ، إنما هو كقول أحدكم : تعلم ، وتعال ، وأقبل» ؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلىاللهعليهوسلم إذا اختلفت ألفاظها ، واتفقت معانيها ، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في «هلمّ ، وتعال ، وأقبل» ، فأما ما لم يقرأ به النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، وتابعوهم ، فإن من أورد حرفا منه في القرآن بهت ، ومال ، وخرج عن مذهب الصواب ، وحديثهم الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة لا يصححه أهل العلم. انتهى.
فصل في فضل صلاة الليل
بيّن تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النّهار ، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر ، وأجلب للثواب ، كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب ، والعشاء ، ويقول : هذه ناشئة الليل.
وقال عطاء وعكرمة : هو بدوام الليل (٣). قال في الصحاح (٤) : (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) أول ساعاته.
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٣٩ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٤.
(٢) الدر المصون ٦ / ٤٠٤.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٢) عن عكرمة.
(٤) ينظر : الصحاح ١ / ٧٨.