وقيل : «نبتليه» نكلّفه بالعمل بعد الخلق. قاله مقاتل رحمهالله. وقيل : نكلفه ؛ ليكون مأمورا بالطاعة ، ومنهيا عن المعاصي.
وقوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً).
والمعنى : إنا خلقناه في هذه الأمشاج لا للعبث بل للابتلاء والامتحان ، ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر ، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز ، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة ، والمعنى : جعلنا له سمعا يسمع به الهدى وبصرا يبصر به الهدى كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [مريم : ٤٢] وقد يراد بالسميع المطيع ، كقوله : «سمعا وطاعة» ، وبالبصير : العالم ، يقال : لفلان بصر في هذا الأمر.
وقيل : المراد بالسمع والبصر : الحاسّتان المعروفتان ، والله ـ تعالى ـ خصهما بالذكر ؛ لأنهما أعظم الحواس وأشرفهما.
قوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي : بيّنا له وعرفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل فآمن أو كفر.
وقال مجاهد : السبيل هنا خروجه من الرحم (١).
وقيل : منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله.
فصل في أن العقل متأخر عن الحواس
قال ابن الخطيب (٢) : أخبر الله ـ تعالى ـ أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال ، قال : والآية تدل على أن العقل متأخر عن الحواس ، وهو كذلك ثم ينشأ عنها عقائد صادقة أولية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي العقل.
قال الفراء : هذا يتعدى بنفسه وباللام.
قوله : (إِمَّا شاكِراً). نصب على الحال ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من مفعول «هديناه» أي : هديناه مبينا له كلتا حالتيه.
قال أبو البقاء : وقيل : وهي حال مقدرة.
قال شهاب الدين (٣) : لأنه حمل الهداية على أول البيان له وفي ذلك الوقت غير متصف بإحدى الصفتين.
__________________
(١) ذكره الماوردي (٦ / ١٦٤) والقرطبي (١٩ / ٨٠) عن أبي صالح والضحاك والسدي.
(٢) الفخر الرازي ٣٠ / ٢١٠.
(٣) الدر المصون ٦ / ٤٣٨.