مخاطبة الرسول صلىاللهعليهوسلم لأولئك الكفار ، وكان بسماعه يعرف شدة اهتمام النبي صلىاللهعليهوسلم بشأنهم ، فكان إقدامه على قطع كلام النبي صلىاللهعليهوسلم لغرض نفسه قبل تمام غرض النبي صلىاللهعليهوسلم معصية عظيمة.
وأيضا : فإنّ الأهم يقدّم على المهمّ ، وكان قد أسلم ، وتعلّم ما يحتاج إليه من أمر دينه ، أما أولئك الكفّار ، فلم يكونوا أسلموا بعد ، وكان إسلامهم سببا لإسلام جمع عظيم ، فكان كلام ابن أم مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل ، وذلك محرم.
وأيضا : فإنّ الله ـ تعالى ـ ذمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات بمجرد ندائهم ، فهذا النداء الذي هو كالصّارف للكفار عن [قبول](١) الإيمان أولى أن يكون ذنبا ، فثبت أن الذي فعله ابن أمّ مكتوم كان ذنبا ومعصية.
وأيضا : فمع هذا الاعتناء بابن أم مكتوم ، فكيف لقب بالأعمى؟.
وأيضا : فالنبيّ صلىاللهعليهوسلم يؤدّب أصحابه بما يراه مصلحة ، والتّعبيس من ذلك القبيل ، ومع الإذن فيه ، كيف يعاتب عليه؟.
والجواب عن الأول : أنّ ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأنّ النبيصلىاللهعليهوسلم مشغول بغيره ، وأنّه يرجو إسلامهم ، ولكن الله عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصّفّة ، أو ليعلم أنّ المؤمن الفقير خير من الغنى ، وكان النظر إلى المؤمن أولى ، وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم ، وإن كان ذلك أيضا طمعا في المصلحة ، وعلى هذا يخرج قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) [الأنفال : ٦٧] الآية.
وقيل : إنّما قصد النبي صلىاللهعليهوسلم تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان ، كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنّي لأعطي الرّجل ، وغيره أحبّ إليّ منه مخافة أن يكبّه الله على وجهه».
وقال ابن زيد : إنّما عبس النبي صلىاللهعليهوسلم لابن أم مكتوم ، وأعرض عنه ؛ لأنّه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه ، فدفعه ابن أم مكتوم ، وأبى إلا أن يكلم النبي صلىاللهعليهوسلم حتى يعلمه ، فكان في هذا نوع جفاء منه ، ومع هذا أنزل الله تعالى في حقه : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) ، بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيما له ، ولم يقل : عبست وتولّيت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له ، فقال : (وَما يُدْرِيكَ) أي : يعلمك «لعلّه» ابن أم مكتوم «يزّكّى» بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين ، وإنّما ذكره بلفظ الأعمى ليس للتحقير ، بل كأنه قيل : إنه بسبب عماه يستحق مزيد الرفق والرأفة ، فكيف يليق بك يا محمد ، أن
__________________
(١) سقط من : أ.