فإن قيل : كونه كريما يقتضي ألا يغتر الإنسان بكرمه ؛ لأنه جواد مطلق ، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع ، وعصيان المذنب ، وهذا لا يوجب الاغترار وروي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنّه دعا غلامه مرات ، فلم يجبه ، فنظر فإذا هو بالباب ، فقال له : لم لا تجبني؟ فقال : لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه.
وقالوا ـ أيضا ـ من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ، وإذا ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله ـ هاهنا ـ مانعا من الاغترار؟.
فالجواب من وجوه :
الأول : أن المعنى لما كنت ترى حلم الله ـ تعالى ـ عن خلقه ظننت أن ذلك لا حساب ، ولا دار إلا هذه الدار ، فما الذي دعاك إلى الاغترار وجرّأك على إنكار الحشر ، والنشر ، فإنّ ربك كريم ، فهو من كرمه ـ تعالى ـ لا يعاجل بالعقوبة بسطا في مدة التوبة ، وتأخيرا للجزاء ، وذلك لا يقتضي الاغترار.
الثاني : أنّ كرمه تعالى لمّا بلغ إلى حيث لا يمنع العاصي من أن يطيعه ، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى ، فإذا كان كونه كريما يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار ، وترك الجزاء والاغترار.
الثالث : أنّ كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة ، والاستحياء من الاغترار.
الرابع : قال بعضهم : إنما قال : «بربّك الكريم» ليكون ذلك جوابا عن ذلك السؤال حتى يقول : غرني كرمك ، فلو لا كرمك لما فعلت ؛ لأنك رأيت فسترت ، وقدرت فأمهلت.
وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) ليس هو «الكافر».
فصل في غرور ابن آدم
قال قتادة ـ رضي الله عنه ـ : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان (١) وقال مقاتل : غرّه عفو الله حين لم يعاقبه أوّل مرة (٢).
وقال السديّ : غرّه عفو الله (٣).
وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ، فيقول تعالى : ما
__________________
(١) ينظر المصدر السابق وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٥٥).
(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٥٥).
(٣) ينظر المصدر السابق.