وأجاب ابن الخطيب (١) عن هذا السؤال : بأنه في قوله : «أكرمني» صادق ، وفي قوله : «أهانني» غير صادق فهو ظهن أنّ قلة الدنيا ، وتعسرها إهانة ، وهذا جهل ، واعتقاد فاسد ، فكيف يحكي الله ـ تعالى ـ ذلك عنه؟.
قيل : لما قال : «فأكرمه» ، فقد صحّ أنه أكرمه ، ثم إنه لما حكى عنه أنه قال : «أكرمن» ذمه عليه ، فكيف الجمع بينهما؟.
فالجواب : أن كلمة الإنكار : «كلّا» ، فلم لا يجوز أن يقال : إنّها مختصة بقوله تعالى : (رَبِّي أَهانَنِ)؟.
سلمنا أن الإنكار عائد إليهما معا ، لكن يمكن أن يكون الذّم ؛ لأنه اعتقد أن ذلك الإكرام بالاستحقاق ، أو أنه لما لم يعترف إلا عند سعة الدنيا ، مع سبق النعم عليه من الصحة ، والعقل دلّ على أن غرضه من ذلك ليس الشكر ، بل محبة الدنيا ، والتكثير بالأموال والأولاد ، أو لأن كلامه يقتضي الإعراض عن الآخرة وإنكار البعث ، كما حكى الله تعالى بقوله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) إلى قوله : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) [الكهف : ٣٥ و ٣٧].
قوله تعالى : (كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠)
قوله تعالى : (كَلَّا) : ردع للإنسان عن تلك المقالة.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ المعنى : لم أبتله بالغنى ، لكرامته عليّ ، ولم أبتله بالفقر ، لهوانه عليّ ، بل ذلك لمحض القضاء والقدر ، والمشيئة والحكم المنزه عن التعليل (٢) ، وهذا مذهب أهل السنة ، وأما على مذهب المعتزلة : فلمصالح خفيّة ، لا يطلع عليها إلا هو ـ سبحانه ـ فقد يوسع على الكافر لا لكرامته ، ويقتر على المؤمن لا لهوانه.
قال الفراء في هذا الموضع : يعني : لم يكن للعبد أن يكون هكذا ، ولكن يحمد الله ـ تعالى ـ على الغنى والفقر.
قوله : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ). قرأ أبو عمرو (٣) : «يكرمون» ، وما بعده بياء الغيبة ، حملا على معنى الإنسان المتقدم ، إذ المراد به الجنس ، والجنس في معنى : الجمع.
والباقون : بالتاء في الجميع ، خطابا للإنسان المراد به الجنس ، على طريقة الالتفات.
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٥٥ ـ ١٥٦.
(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٥) عن ابن عباس.
(٣) ينظر : السبعة ٦٨٥ ، والحجة ٦ / ٤٠٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٧٩ ، وحجة القراءات ٧٦٢.