[النحل : ٧٨] ، لأنه تعالى بين أنه خلقه من نطفة ، وأنعم عليه بالنعم المذكورة ، ثم ذكر أنه إذا زاد عليه في النعمة فإنه يطغى ، ويتجاوز الحد في المعاصي ، واتباع هوى النفس ، وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة.
قوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)
قوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى). إلى آخر السورة.
قيل : إنه نزل في أبي جهل ، نهى النبي صلىاللهعليهوسلم عن الصلاة ، فأمر الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يصلي في المسجد ، ويقرأ باسم الربّ ـ تبارك وتعالى ـ وعلى هذا فليست السورة من أول ما نزل ، ويجوز أن يكون خمس آيات من أولها أولى ما نزل ، ثم نزل البقية في شأن أبي جهل ، وأمر النبيصلىاللهعليهوسلم بضم ذلك إلى أول السورة ؛ لأن تأليف السور إنما كان بأمر الله تعالى ، ألا ترى أنّ قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] آخر ما نزل ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل.
و «كلّا» بمعنى حقا.
قال الجرجانيّ : لأن ليس قبله ولا بعده شيء يكون «كلّا» ردّا له ، كما قالوا في (كَلَّا وَالْقَمَرِ) [المدثر : ٣٢] ، فإنهم قالوا : معناه : أي والقمر ؛ لأنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه ، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه.
وقال مقاتل : كلّا ليعلم الإنسان أن الله تعالى هو الذي خلقه من العلقة ، وعلمه بعد الجهل ؛ لأنه عند صيرورته غنيا يطغى ، ويتكبر ويصير مستغرق القلب في حبّ الدنيا ، فلا يفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها.
قوله : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ، مفعول له ، أي : رؤيته نفسه مستغنيا ، وتعدى الفعل هنا إلى ضميريه المتصلين ؛ لأن هذا من خواص هذا الكتاب.
قال الزمخشريّ (١) : «ومعنى الرؤية ، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين ، و «استغنى» هو المفعول الثاني».
قال شهاب الدين (٢) : والمسألة فيها خلاف ، ذهب جماعة إلى أن «رأى» البصرية تعطى حكم العلمية ، وجعل من ذلك قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ : لقد رأيتنا مع رسول
__________________
(١) الكشاف (٤ / ٧٧٧).
(٢) الدر المصون (٦ / ٥٤٦).