ثم قال أبو حيان (١) : والذي أختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل ؛ لأن الغالب في «لا» أن تنفي المستقبل ، ثم عطف عليه (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) نفيا للمستقبل ؛ لأن اسم الفاعل العامل ، الحقيقة فيه : دلالته على الحال ، ثم عطف عليه (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) نفيا للحال على سبيل المقابلة ، فانتظم المعنى ، أنه صلىاللهعليهوسلم لا يعبد ما يعبدون حالا ، ولا مستقبلا ، وهم كذلك ، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر ، ولما قال : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) فأطلق «ما» على الأصنام ، قابل الكلام ب «ما» في قوله : «ما أعبد» وإن كان المراد الله ، لأن المقابلة تسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد وهذا مذهب من يقول : إن «ما» لا تقع على آحاد أولي العلم ، أما من جوز ذلك ، وهو منسوب إلى سيبويه ، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل.
قال القرطبيّ (٢) : كانوا يعبدون الأوثان ، فإذا ملّوا وثنا ، وسئموا العبادة له رفضوه ، ثم أخذوا وثنا غيره بشهوة نفوسهم ، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ، ورفعوا تلك ، فعظموها ، ونصبوها آلهة يعبدونها ، فأمر أن يقول : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) اليوم من هذه الآلهة التي بين أيديكم ، ثم قال صلىاللهعليهوسلم : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) انما تعبدون الوثن الذي اتخذتموه ، وهو عندكم الآن ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ، فإني أعبد إلهي.
قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). أتى بهاتين الجملتين الإثباتيتين بعد جملة منفية لأنه لما ذكر أنّ الأهم انتفاؤه صلىاللهعليهوسلم من دينهم ، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه ، فلما تحقق النفي رجع صلىاللهعليهوسلم إلى خطابه بقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) مهادنة لهم ، ثم نسخ ذلك الأمر بالقتال.
وفتح الياء في «لي» : نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه ، وأسكنها (٣) الباقون.
وحذف «الياء» من «ديني» وقفا ووصلا : السبعة ، وجمهور القراء ، وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب ، وقالوا : لأنها اسم مثل الكاف في «دينك» والثاني قد تقدم إيضاحه.
فصل
في الكلام معنى التهديد ، كقوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [البقرة : ١٣٩] ، أي : إن رضيتم بدينكم ، فقد رضينا بديننا ، ونسخ هذا الأمر بالقتال.
[وقيل : السورة منسوخة.
__________________
(١) البحر المحيط ٨ / ٥٢٣.
(٢) الجامع لأحكام القرآن ٣٢ / ١٥٥.
(٣) ينظر : السبعة ٦٩٩ ، والحجة ٦ / ٤٤٩ ـ ٤٥٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥٣٩ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥٣١ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٣.