عند إرسالها عرفا ، أي : متتابعة ، كشعر العرف ، ثم إنها تشتدّ حتى تصير عواصف ورياح رحمة تنشر السحاب في الجو ، قال الله تعالى : (يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧] ، وهو المراد بقوله تعالى : (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أي : أنها تنشر السحاب ، أو أنها تلقح الأشجار والنبات ، فتكون ناشرة ، وقوله تعالى : (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) أي : أنها تفرق بين أجزاء السحاب ، أو أنها تخرب بعض القرى ، وذلك يصير سببا لظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه ، أو أنها عند هبوبها تفرّق الخلق فمن مقرّ خاضع ، ومن منكر جاحد.
وقوله تعالى : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) أي : أن العاقل إذا شاهد هبوب تلك الرياح التي تقلع القلاع وتهدم الصخور والجبال ، وترفع أمواج البحار تمسّك بذكر الله ـ تعالى ـ والتجأ إلى إعانة الله ـ تعالى ـ فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذّكر والإيمان والعبودية في القلب.
الوجه الثالث : قال ابن الخطيب (١) : من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمس على القرآن ، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن ، فقوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) المراد منه الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل على محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقوله تعالى : (عُرْفاً) أي هذه الآيات نزلت بكل عرف وخير ، كيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة الموصلة إلى مجامع الخيرات ، والمراد ب «العاصفات عصفا» أن دولة الإسلام والقرآن إن كانت ضعيفة في أولها ، ثم عظمت وقهرت سائر الملل والأديان ، فكأن دولة القرآن عصفت سائر الدّول والملل والأديان وقهرتها ، وجعلتها باطلة داثرة.
والمراد ب «النّاشرات نشرا» ، أن آيات القرآن نشرت الحكم والهداية في قلوب العالمين شرقا وغربا.
والمراد ب «الفارقات فرقا» أن آيات القرآن فرّقت بين الحقّ والباطل ، ولذلك سمّي القرآن فرقانا ، والمراد ب «الملقيات ذكرا» أن القرآن ذكر ، قال تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] ، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] ، (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٥٠] ، (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [الحاقة : ٤٨].
الوجه الرابع : قال ابن الخطيب (٢) : ويمكن حملها أيضا على بعثة الرّسل ، فالمراد ب «المرسلات عرفا» هم المرسلون بالوحي المشتمل على كلّ خير ومعروف ، (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) أن كل أمر لكل رسول يكون في أول أمره حقيرا ضعيفا ، ثم يشتدّ ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) انتشار دينهم ، (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) أنهم يفرقون بين الحق والباطل ، (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) أنهم يأمرونهم بالذكر ويحثّونهم عليه.
__________________
(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٢٣٥.
(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٢٧٥.