والإماتة بالعذاب فإن كان مطلق الإماتة لم يكن ذلك تخويفا للكفار ؛ لأن ذلك معلوم حاصل للمؤمن والكافر ، فلا يكون تخويفا للكفار ، وإن كانت الإماتة بالعذاب فقوله تعالى : (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) يقتضي أن يكون فعل بكفّار قريش مثل هذا ، ومعلوم أن ذلك لم يوجد ، وأيضا فقد قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣].
فالجواب : قال ابن الخطيب (١) : لم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالث ، وهو الإماتة المستعقبة للذّم واللّعن ، فكأنه قيل : أولئك المتقدمون لحرصهم على الدنيا عادوا الأنبياء وخاصموهم ، ثم ماتوا ففاتتهم الدنيا ، وبقي اللّعن عليهم في الدنيا والعقوبة في الآخرة دائما سرمدا ، فهكذا يكون حال الكفار الموجودين ، وهذا من أعظم وجوه الزجر.
قوله تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٢٤)
قوله : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ). أي : ضعيف حقير وهو النّطفة ، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار ، وهو من وجهين :
الأول : أنه ـ تعالى ـ ذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، وكلما كانت نعمه عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش ، فيكون العقاب أعظم ، فلهذا قال جل ذكره عقيب هذه الأنعام: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).
والثاني : أنه تعالى ذكرهم كونه تعالى قادرا على الابتداء ، والظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة ، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة ، لا جرم قال في حقهم : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٨].
(فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) ، أي : مكان حريز وهو الرّحم.
(إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) ، قال مجاهد : إلى أن نصوره ، وقيل : إلى وقت الولادة ، كقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى قوله : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) [لقمان : ٣٤].
قوله تعالى : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) ، قرأ نافع (٢) والكسائي : بالتشديد من التقدير، وهو موافق لقوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس : ٤].
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٢٤٠.
(٢) ينظر : السبعة ٦٦٦ ، والحجة ٦ / ٣٦٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٢٨ ، وحجة القراءات ٧٤٣.