(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ* الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ* فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) فهم هذه الآيات على غاية من الأهمية ، لأنها تعرّضت لداء الأمم السابقة مع كتبها ، وهو داؤنا اليوم ، كما أن فهمها مهم لبناء الأمرين اللاحقين عليها ، وللتدليل على أن سورة الحجر مقدمة للسور اللاحقة ضمن السياق القرآني العام.
(كَما) أي مثلما ، وأين نعلق هذه الكاف؟ يذهب النسفي إلى أنها متعلقة بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) كما (أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) والمقتسمون كما روى البخاري عن ابن عباس هم أهل الكتاب جزّؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ، فصار المعنى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، كما أنزلنا على أهل الكتاب كتبا ، فآل أمرهم إلى أن جزّؤوا كتبهم واقتسموها ، فطبّقوا بعضها وأهملوا بعضا آخر ، ولذلك قال (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ) أي الكتاب المنزّل عليهم ، لأن القرآن كما يطلق على كتابنا يطلق على الزبور والإنجيل والتوارة ، وقد رأينا دليل ذلك في سورة الرعد (عِضِينَ) أي أجزاء آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، عملوا ببعض وتركوا بعضا ، بتواطؤ العلماء والزعماء (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أقسم بذاته وربوبيته ليسألن يوم القيامة واحدا واحدا من هؤلاء المقتسمين عما عملوه ، مفرطين في شأن كتبهم اعتقادا وعملا (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) من الشرائع كلها والشعائر كلها فاجهر به وأظهره.
ولنقف وقفة :
عرفنا من الآيات السابقة أن داء الأمم السابقة الكفر ببعض كتبها والإيمان ببعض ، وقد أصاب هذا الداء أمتنا قديما وحديثا ، ومن ثم وحتى لا تقع هذه الأمة في هذا الداء ، أمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يجهر بكل ما أنزل إليه ، وأن يعرض عن المشركين ، فأشعرنا بذلك أنه من الشرك التسليم لبعض الكتاب ورفض بعضه ، فإذا اتضح هذا وعرفنا أن السور اللاحقة لسورة الحجر تفصّل في حيز قوله تعالى في سورة البقرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) أي في الإسلام جميعا ، ندرك أن ذكر هذا المعنى هنا له مغزى خاص فيما له علاقة في السياق القرآني العام.
ولنعد إلى السياق : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) يقال صدع بالحجة ، إذا تكلّم بها جهارا