الميتة (مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم الأنبياء (أَنْ أَنْذِرُوا) أي لينذروا (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) هذه هي محور دعوة الأنبياء والرسل ، وهذا محور الوحي كله التوحيد ، فكل وحي أنزله الله إنما هو من أجل تقرير التوحيد وتأكيده وتفهيمه وتعليمه ، فدعوة الرسل من بدايتها إلى نهايتها ، وكل ما شرع الله لعباده إنما هو من أجل تقرير هذه الحقيقة وتوكيدها ، والقرآن الكريم الذي هو أعظم كتاب منزل إنما هو من أوله لآخره شرح لهذه الحقيقة ، وتعليم لها ، وتذكير بها ، وحماية لها (فَاتَّقُونِ) أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري ، وإذ كان الوحي كله من أجل التوحيد ، فقد بدأت الآيات تعرّفنا على الله ، وتؤكّد وحدانيته ، وتدلّنا عليه وعلى أنّه واحد (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) لا للعبث ، ومن كان هذا فعله الذي هو آثار صفاته يتعالى عن أن يشرك به غيره لذلك قال : (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) هو المستقل بخلق السموات والأرض. وحده ، فلهذا يستحق أن يعبد وحده فكيف يشركون به غيره ، وهو خالقهم ، وخالق كل ما يحتاجون إليه ، مما ستأتي تفصيلاته ، ألا إنها الخصومة لله رب العالمين ، ومن ثم نجد السياق يقرّر : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) أي مهينة ضعيفة ، فلما استقل ودرج (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي إذا هو يخاصم ربه تعالى ، ويكذّبه ، ويحارب رسله ، وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا ، وهو وصف للإنسان بالوقاحة والتمادي في كفران النعمة ، ومن رأى آلاف الكتب التي تطرح يوميا في عصرنا ، وكلها خصومة لله ، وإنكار لوجوده ، أدرك الوصف ، والآية كما هي إنكار على الإنسان ، فإن فيها تدليلا على الله ، فإن هذا الإنسان الذي أصله هذه النطفة في حقارتها وصغرها ، هو هذا المنطيق المجادل المخاصم ليس لبني البشر فحسب بل لله رب العالمين.
ولقد قال صاحب الظلال عند هذه الآية (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) : (ويالها من نقلة ضخمة بين المبدأ والمصير ، بين النطفة الساذجة والإنسان المخاصم ، الذي يخاصم خالقه فيكفر به ، ويجادل في وجوده ، أو في وحدانيته. وليس بين مبدئه من نطفة وصيرورته إلى الجدل والخصومة فارق ولا مهلة ، فهكذا يصوره التعبير ، ويختصر المسافة بين المبدأ والمصير ، لتبدو المفارقة كاملة ، والنقلة بعيدة ، ويقف الإنسان بين مشهدين وعهدين متواجهين : مشهد النطفة المهينة الساذجة ، ومشهد الإنسان الخصيم المبين وهو إيجاز مقصود في التصوير).