هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) : إشارة إلى الصّنفين من المؤمنين. وكلمة (عَلى) في هذه الآية للاستعلاء ، ومعناه تشبيه تمسّكهم بالهدى أو ثباتهم عليه باعتلاء الراكب مركوبه وتسلّطه عليه ولصوقه به. ونكّر (هُدىً) هاهنا للتعظيم ، (مِنْ رَبِّهِمْ) تأكيد لتعظيمه لأنه ممنوح منه ، وليس هو إلّا اللّطف والتوفيق. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تكرير الإشارة لفائدة اختصاصهم وتميّزهم بالميزتين عن غيرهم.
٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : لما ذكر سبحانه أولياءه بصفاتهم الموجبة لهم وهي الهدى والفلاح ، أتبعهم بأضدادهم : أي الكفرة العتاة الذين لا يتناهون عن منكر ولا ينتفعون بالتبشير والإنذار. (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) سواء : اسم بمعنى الإستواء. والإنذار هو التخويف من العقاب مطلقا. والمراد منه هنا التخويف من عقاب الله تعالى. (لا يُؤْمِنُونَ) جملة مؤكّدة لما قبلها فلا محلّ لها من الإعراب ، أو هي حال من ضمير عليهم أيضا مؤكّد. وهذا الإخبار منه تعالى لا ينافي قدرتهم على الإيمان ، لأنه سبحانه يخبر عن علمه بحالهم وعاقبة أمرهم. وعلم الله بعدم إيمان شخص لا يسلب قدرة الشخص ، كما أن علمه بإيمانه لا يجبره عليه ، فلا يكون تكليفهم به تكليفا بما لا يطاق.
٧ ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) ... الختم أخو الكتم. وعن الرضا (ع): هو الطّبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم ، كما قال تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ)(وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) أي غطاء. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) والعذاب كالنّكال زنة ومعنى ، ثم سمّي به كلّ ألم فادح وإن لم يكن نكالا أي عقابا. و (العظيم) نقيض الحقير ، كالكبير نقيض الصغير.
٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) ... وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان. (بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) تكرّر الباء لادّعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) تكذيب لقولهم : آمنّا ، على ما حكى عزوجل في صدر هذه الآية. والمراد ب (من) الموصولة : ابن أبي سلول وأضرابه كمعتب بن قسمير ، وجماعة أخرى كانوا مع هؤلاء.
٩ ـ (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) ... الخدع (بالفتح والكسر) الختل ، وهو أن يظهر للغير خلاف ما يخفيه ، وما يريد به من المكروه ، وأصل معناه الإخفاء. ومعنى المخادعة أن يعملوا معهم معاملة المخادع من إبطال كفرهم وإظهار الإسلام لديهم. وإنما أضاف مخادعة الرسول إليه تعالى لأن مخادعته ترجع إلى مخادعة الله كما قال عزوجل : إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله ، والمخادعة مع المؤمنين هو إيذاؤهم بخديعتهم (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي ما يضرّون بتلك الخديعة أحدا وإنما يرجع وبال ذلك عليهم دنيا وآخرة (وَما يَشْعُرُونَ) أي : وما يحسّون.
١٠ ـ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ... أي شك ونفاق. ووجه تسمية الشك بالمرض أنّ الشك تردّد بين أمرين ، والمريض مردّد بين الحياة والممات. ويمكن أن تكون إخبارا بأن القلوب المريضة ـ بطبعها ـ يزداد المرض فيها لضعفها ولكونها مستعدة له كالأمزجة الضعيفة إذا ابتلت بالمرض. فلما لم يكن فيها استعداد لمقاومة المرض ينمو فيها المرض ويصير مزمنا ثم يؤدي إلى الموت. (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بحيث تاهت قلوبهم وكادت أن تذوب في الدنيا ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة أي مؤلم موجع غاية الإيلام (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) بمقالتهم آمنّا. ولفظ (كان) للاستمرار.
١١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) : بإظهار الشّقاق والنفاق بين المسلمين (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي ليس شأننا إلّا الإصلاح. وقد حصروا أمرهم في الإصلاح لتصوّرهم الفساد إصلاحا لمرض قلوبهم.
١٢ ـ (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ... ردّ لدعواهم الكاذبة. (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) بكونهم مفسدين مع غاية ظهور فسادهم الذي هو كالشيء المحسوس ، ولكنّ حبّ الشيء يعمي ويصم.
١٣ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُوا) ... وقد نصحوا بأمرين مكملين لإيمان العبد ، الأول : ترك الرذائل في قوله سبحانه : ولا تفسدوا. والثاني : اكتساب الفضائل بقوله تعالى (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) يراد به النبيّ (ص) ومن آمن من أصحابه الخلّص. (قالُوا) في الجواب أو فيما بينهم : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ). استفهام إنكاري. ولام السفهاء للعهد. والمعهود هم الناس الذين آمنوا مع الرسول (ص) المذلّون أنفسهم لمحمد (ص). والسفه هو ضعف الرأي والخفّة في العقل. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) إنهم سفهاء ، أي أخفّاء العقول أراذل. (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) أي يجهلون سفاهتهم. ومن نفي عنهم العلم والشعور فأولئك كالأنعام ، بل هم أضلّ.
١٤ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) ... هذا البيان تثبيت لكونهم منافقين ، لأن صاحب اللسانين هو الذي يقال له المنافق ، وهو أيضا بيان لصنعهم مع المؤمنين والكفّار ، أي إذا رأوا المؤمنين (قالُوا آمَنَّا) بما آمنتم به (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) أي انفردوا بإخوانهم من المنافقين الذين