بين يدي السورة :
١ ـ قدم الألوسي لسورة الذاريات بقوله : (مكية كما روي عن ابن عباس ، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما ـ ولم يحك في ذلك خلاف ـ وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد ، ومناسبتها لسورة (ق) أنها لما ختمت بذكر البعث ، واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق ، وأن الجزاء لواقع ، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال ، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل).
٢ ـ ومن تقديم صاحب الظلال لسورة الذاريات نقتطف ما يلي : (هذه السورة ذات جو خاص. فهي تبدأ بذكر قوى أربعة ... من أمر الله .. في لفظ مبهم الدلالة ، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر. يقسم الله ـ تعالى ـ على أمر : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً* فَالْجارِياتِ يُسْراً* فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً* إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ* وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ).
والذاريات. والحاملات. والجاريات. والمقسمات .. مدلولاتها ليست متعارفة ، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار ، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل. ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة.
وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ). يقسم بها الله تعالى على أمر : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ). لا استقرار له ولا تناسق فيه ، قائم على التخرصات والظنون ، لا على العلم واليقين.
هذه السورة : بافتتاحها على هذا النحو ، ثم بسياقها كله ، تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله .. ربط القلب البشري بالسماء ؛ وتعليقه بغيب الله المكنون ؛ وتخليصه من أوهاق الأرض ، وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله ، والانطلاق إليه جملة ، والفرار إليه كلية ، استجابة لقوله في السورة : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) .. وتحقيقا لإرادته في عباده : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره ، وتطمين النفس من جهته ، وتعليق