هذان مذهبان في فهم آيات الفقرة الأولى ، قد عرفناهما وعرفنا معهما صلة آياتها بمقدمة السورة وبمحورها ، وعندي اتجاه آخر أعرضه فيما يلي :
٢ ـ إن من حمل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) على اختلافهم في القرآن لا دليل له من السياق ، لأن القرآن لم يذكر في السياق أصلا ، ومن قال : إن القول المختلف هو في شأن اليوم الآخر فله وجهه ؛ لأن المقدمة تتحدث عن اليوم الآخر ، ولكن إرجاع الضمير في (عنه) إلى اليوم الآخر بعيد ؛ لأن الظاهر أن الضمير يعود على القول المختلف ، لا على اليوم الآخر المذكور في المقدمة ، ولذلك لم يطمئن قلبي لهذين التفسيرين ، ومن ثم فإنني أفهم الآيات على الشكل التالي : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ) أيها الكافرون (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أي : متناقض مضطرب لأنكم على باطل ، والباطل مضطرب متناقض ، ولا يجمع الناس إلا الحق ، والقرآن هو الحق (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي : يؤفك كأثر عن القول المختلف المضطرب من أفك ، إن عقوبة التناقض والاضطراب في القول أن يصرف الله بعض الناس ، ولكن يصرفهم عن أي شىء؟ هنا يبقى الإطلاق على إطلاقه أي : يصرفهم عن القرآن والإيمان ، فصار المعنى : بسبب هذا القول المختلف : يصرف من صرف عن الحق في شأن القرآن واليوم الآخر ، فإذا عرف ماذا يترتب على القول المختلف من انصراف عن الحق كله يأتي قوله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ* يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ* ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ). فبين بهذه الآيات ما يستحقه المرتابون الغافلون المستبعدون لليوم الآخر ، أي : الذين صفاتهم عكس صفات المتقين ، فالمتقون كما وصفتهم أوائل سورة البقرة لا يرتابون في القرآن ، ولا يرتابون في الغيب ، ولا يرتابون في الوحي ، ولا يرتابون في اليوم الآخر ، وهؤلاء عكس ذلك تماما ، فإذا اتضح ما لهؤلاء من عذاب ، ذكر الله عزوجل المتقين المحسنين بما يعطينا زيادة تفصيل على أوصافهم في سورة البقرة ، وبما يفسر فلاحهم فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ* كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ...). وصلة ذلك بمحور السورة من سورة البقرة وبسياق السورة واضح على ما ذكرناه ، فإذا وصل السياق إلى ذلك يكون قد استقر في القلب والعقل أن الحال الصحيح هو حال المؤمنين المتقين المحسنين العاملين للآخرة الموقنين بها ، ومن