وذلك أن العبادة قد فرضت على الجميع بما فيها من فعل وترك لإبقاء الإيمان فى القلوب على درجة من القوة والفاعلية ترفع طلائع الإسلام إلى الدعوة بالقول والعمل. فالعبادة فى الحقيقة وسيلة تربية وإعداد وبناء لإنسان الحضارة القرآنية ، فمن أقام عليها دون أن يدعو إلى الله وإلى سبيله فمثله كمثل من أعد أرضا للزرع ، وهيأها للإنتاج ، ثم نام على ثراها لا يفيد نفسه ولا غيره من ثمارها ، وهو انحراف عن السنن المشروع الذى علّمه الرسول صلىاللهعليهوسلم لأصحابه فى صدر الدعوة ، ثم بدت نذر (التقوقع) والانزواء فى عصر التابعين وفى حياة المعمرين من الصحابة أنفسهم. ومن أمثلة ذلك ما روى الشعبى : «أن رجالا خرجوا من الكوفة ، ونزلوا قريبا يتعبدون ، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود ، فأتاهم ، ففرحوا بمجيئه إليهم ، فقال لهم : ما حملكم على ما صنعتم؟ فقالوا : أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد ، فقال عبد الله : لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم ، فمن كان يقاتل العدو؟! وما أنا ببارح حتى ترجعوا».
هذا هو فقه القرآن كما علمه ابن مسعود من تعاليم الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ومن تجربة مماثلة حاول القيام بها عثمان بن مظعون الصحابى هو وجماعة من أصحابه فنهاهم الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وأنار لهم طريق القرآن الحق.
لن يكون الإنسان المسلم التابع للقرآن عاملا بأمر ربه إلّا إذا عبده ، ودعا إليه وإلى دينه وكتابه. هكذا أرسل الله رسوله صلىاللهعليهوسلم (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (١) ، وهكذا أثنى القرآن على الدعاة (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) (٢) ، بل إن الإمام الشاطبى لم يجعل من قاعدة فرض الكفاية فى
__________________
(١) سورة الأحزاب : ٤٦.
(٢) سورة فصلت : ٣٣.