هذا الإعجاز نطاق البلاغة والفصاحة ، وتصحيح النظريات العلمية ، والتنبؤ بالمستقبل ، إلى نطاق السياسة والاجتماع والعلوم التجريبية كلها.
ولو لم يكن القرآن معجزا لأهل عصره لكان قصاراه : أن يكون أسلوبا ممتازا يلقى فصحاء العرب إلى من جاء به بزمام التفوق والسلطان ، شأنه فى ذلك شأن المعلقات السبع وأمثالها ، أما والرسول العظيم صلىاللهعليهوسلم يأبى أن تكون الشمس فى يمينه والقمر فى يساره إلّا أن يظهر دين الله ، فالأمر إذن فوق جودة الأسلوب ، وفوق كل الاعتبارات ، ذلك هو : إذعان العرب عاجزين ، أو انقيادهم مختارين إلى تلك العظمة القرآنية التى تفوق مقاييس العظمة الأسلوبية المتعارفة آنذاك.
لقد اشتبه الأمر على العرب ، فلم تكن فى الرسالات السابقة معجزات باطنة فى الكتب التى أنزلت على الرسل ، أى : لم تكن هناك معجزات من جنس الكلام ، بل كانت معجزات مادية منفصلة تماما عن الكتب السماوية ، وهذا الواقع هو الذى دفع العرب إلى أن يقولوا : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (١) وإلى أن يطلبوا منه أن يجعل لهم الصّفا ذهبا ، ... وإلى أن يقولوا عن القرآن : (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (٢) حينما لم يهتدوا بعيدا عن معجزات المادة.
وليس فى تحدى الله لعباده انتقاصا من هيبة الله تعالى ، بل إن الإنسان الذى أحل نفسه مكان الله فى الأرض كان وما يزال بعيدا عن الإذعان إلّا على وجه التحدى البيانى ، ثم التحدى بالقوارع المدمرة ، على أن آيات القرآن مليئة بتحدى المخاطبين. ألم يقل الله تعالى لليهود : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) (٣)؟ ألم يقل لهم : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) ... (قُلْ
__________________
(١) سورة ص : ٧.
(٢) سورة الأحقاف : ١١.
(٣) سورة الجمعة : ٦ ـ ٧.
(٤) سورة آل عمران : ٩٣.