تفسيره : «ونحن تتبين لنا البراعة فى أكثره ، ويخفى علينا وجهها فى مواضع ، لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ فى سلامة الذوق ، وجودة القريحة ، وقامت الحجة على العالم بالعرب ، إذ كانوا أرباب الفصاحة ، وفطنة المعارضة». فقوله : إن الحجة قامت على العالم بالعرب لا يمكن تسليمه على إطلاقه هكذا. إذ لا يمكن أن تكون البلاغة القرآنية الخارقة لبلاغة العرب هى سبب هداية الترك والفرس قديما ، والأوربيين حديثا ، بل يمكن أن يكون عجز العرب عن المعارضة عاملا مساعدا ، وعنصرا واحدا من عناصر الدعوة عن طريق التفوق القرآنى فى جميع الميادين.
وهناك محاولات تفصيلية بعيدة عن العمومات تدور حول النظر التحليلى فى أسلوب القرآن للتعرف على وجوه إعجازه من وجهة النظر العربية يمكن الإشارة إليها على سبيل المثال لا الحصر.
أولا : الموازين الدقيقة بين اللفظ والمعنى. وفى هذا يقول ابن عطية : «إذ ترتبت اللفظة من القرآن علم الله بإحاطته ، أى لفظة تصلح إن تلا الأولى ، وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول ... وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد».
وقد أكمل ابن سراقة هذا المعنى فقال : «إن من اقتصر على معانيه وغير حروفه أذهب رونقه ، ومن اقتصر على حروفه وغير معانيه أبطل فائدته ، فكان ذلك أبلغ فى الدلالة على إعجازه».
ولقد أدخل الفخر الرازى فى هذا الباب علم مناسبات الآيات والسور ، وارتباط بعضها ببعض حتى تصير شيئا واحدا ، وبناء متينا لا خلل بين أجزائه ، حتى لقد قال : «إن الإعجاز يكاد ينحصر فى هذا المعنى الذى لا يوجد أبدا فى كلام البشر». وقد أخرجنا بعون الله كتابا مستقلّا فى هذا الباب ، وزودته بدراسة وافية ، وهو (أسرار ترتيب القرآن).