الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بالنبات (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) عطف على أنزل ، كأنه استدل بنزول المطر وتكوين النبات به وبث الحيوانات في الأرض ، أو على أحيا فإن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. والبث النشر والتفريق. (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) في مهابها وأحوالها ، وقرأ حمزة والكسائي على الإفراد. (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لا ينزل ولا يتقشع ، مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله تعالى. وقيل : مسخر الرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى ، واشتقاقه من السحب لأن بعضه يجر بعضا. (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم ، وعنه صلىاللهعليهوسلم «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي لم يتفكّر فيها.
واعلم أن دلالة هذه الآيات على وجود الإله ووحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلا ، والكلام المجمل أنها : أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة ، وأنحاء مختلفة ، إذ كان من الجائز مثلا أن لا تتحرك السموات ، أو بعضها كالأرض وأن تتحرك بعكس حركاتها ، وبحيث تصير المنطقة دائرة مارة بالقطبين ، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا ، وعلى هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها ، فلا بد لها من موجد قادر حكيم ، يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته ، متعاليا عن معارضة غيره. إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه الآخر. فإن توافقت إرادتهما : فالفعل إن كان لهما ، لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، وإن كان لأحدهما ، لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وجز الآخر المنافي لآلهيته. وإن اختلفت : لزم التمانع والتطارد ، كما أشار إليه بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا). وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله ، وحث على البحث والنظر فيه.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ)(١٦٥)
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) من الأصنام. وقيل من الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم لقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) ولعل المراد أعم منهما وهو ما يشغله عن الله (يُحِبُّونَهُمْ) يعظمونهم ويطيعونهم (كَحُبِّ اللهِ) كتعظيمه والميل إلى طاعته ، أي يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة ، والمحبة : ميل القلب من الحب ، استعير لحبة القلب ، ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها ، ومحبة العبد لله تعالى إرادة طاعته والاعتناء بتحصيل مراضيه ، ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة ، وصونه عن المعاصي. (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لأنه لا تنقطع محبتهم لله تعالى ، بخلاف محبة الأنداد فإنها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب ، ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله تعالى عند الشدائد ، ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره.
(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولو يعلم هؤلاء الذين ظلموا باتخاذ الأنداد (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) إذ عاينوه يوم القيامة. وأجرى المستقبل مجرى الماضي لتحققه كقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ).
(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ساد مسد مفعولي (يَرَى) ، وجواب (لَوْ) محذوف. أي لو يعلمون أن القوة لله جميعا إذا عاينوا العذاب لندموا أشد الندم. وقيل هو متعلق الجواب والمفعولان محذوفان ، والتقدير : ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع ، لعلموا أن القوة لله كلها لا ينفع ولا يضر غيره. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب: و«لو ترى» على أنه خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما ، وابن عامر : «إذ يرون» على البناء للمفعول ، ويعقوب إن بالكسر وكذا (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) على الاستئناف ، أو إضمار القول.