(رَبِّ الْعالَمِينَ) الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية : وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل. وقيل : هو نعت من ربّه يربه فهو رب ، كقولك نم ينم فهو نم ، ثم سمي به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه. ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) والعالم اسم لما يعلم به ، كالخاتم والقالب ، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى ، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده ، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة ، وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم. وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع. وقيل : عني به الناس هاهنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير ، ولذلك سوى بين النظر فيهما ، وقال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ ، أَفَلا تُبْصِرُونَ). وقرئ (رَبِّ الْعالَمِينَ) بالنصب على المدح. أو النداء. أو بالفعل الذي دل عليه الحمد ، وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها.
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(٤)
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) كرره للتعليل على ما سنذكره.
(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قراءة عاصم والكسائي ويعقوب ويعضده قوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). وقرأ الباقون : ملك. وهو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟). ولما فيه من التعظيم. والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك. والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الملك. وقرئ ملك بالتخفيف وملك بلفظ الفعل. ومالكا بالنصب على المدح أو الحال ، ومالك بالرفع منونا ومضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وملك مضافا بالرفع والنصب. ويوم الدين يوم الجزاء ومنه «كما تدين تدان» وبيت الحماسة :
ولم يبق سوى العدوا |
|
ن دناهم كما دانوا |
أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ، ومعناه ، ملك الأمور يوم الدين على طريقة (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ). أوله الملك في هذا اليوم ، على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة ، وقيل : (الدِّينِ) الشريعة ، وقيل : الطاعة. والمعنى يوم جزاء الدين ، وتخصيص اليوم بالإضافة : إما لتعظيمه ، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه ، وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجدا للعالمين ربا لهم منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها ، مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب ، للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه ، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له ، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلا عن أن يعبد ، فيكون دليلا على ما بعده ، فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد ، وهو الإيجاد والتربية. والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه ، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد. والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما ، وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٥)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر