وبعض آخر يقول : الظلمات الاولى تشير إلى ظلمة جهل الانسان ، فالجاهل لا إيمان له ، وإذا سلك طريق العلم هداه هذا الطريق وأرشده.
والظلمات الثانية تشير إلى الجهل الناشئ عن الجهل ، أي كون الانسان لا يعلم بأنه جاهل ، وهو خطر كبير ؛ لأنَّ الذي لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم يظن كونه هادياً ومصلحاً ، لكن واقعه عكس ذلك ، فجهله مركب ، عكس الذي يجهل ويعلم أنَّه يجهل فإنَّ جهله بسيط.
والظلمات الثالثة تشير إلى من يجهل ولا يعلم أنَّه يجهل بل يتصوَّر نفسه عالماً (١).
استخدم القرآن الكريم تعبيراً جميلاً جداً في الآية ١٠٤ من سورة الكهف واصفاً هؤلاء بما يلي :
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحَياةِ الدُّنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنعاً)
مثل هؤلاء يعدون خيانتهم خدمة ، فيعصون الله ويظنون أنهم يطيعونه ، وهذه هي الظلمات الثلاث المتراكمة بعضها فوق بعض.
٣ ـ الجبر أم الاختيار؟
سؤال : جاء في نهاية الآية : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ، فهل هي تعني أن الله تعالى يمنح من نوره إلى البعض فيهتدون بالطبع ، ويمنع عن البعض نوره فيضلّون بالطبع؟ أليس هذا جبراً؟
الجواب : جرت سنَّة الله تعالى على أن يتم توفير الأرضية من قبلنا والإفاضة منه ، أي نحن نوجد القابلية ، والفاعلية منه تعالى. وعلى هذا يجعل الله نوره ويعطيه لمن وفَّر في نفسه الأرضية والقابلية اللازمة للنور الإلهي. وهذا لا يعني أنَّ الله تعالى يجعل نوره اعتباطاً ودون حساب أو كتاب ، بل نور الايمان لا يدخل في قلب اللجوج والمتعصّب والمعادي للحق وسيئ السيرة ومتَّبع الأهواء ؛ لأنّه لم يُعدّ الأرضية اللازمة لدخول هذا النور. القلب مرآة الانسان لا ينعكس فيها النور الالهي ما لم تمسح وتنظَّف ، كما لا ينعكس لو كانت قد صدأت
__________________
(١) انظر الأمثل ١١ : ١٠٣.